هل يلازم فساد البيع لعدم الإذن بالتصرّف؟
وأمّا الثالثة، أمّا بالنّظر إلى نفس البيع، فلا معنى لأن يقال: بأنّ بيع البائع يستلزم الإذن في ملك نفسه، لأنّ البيع إعدامٌ للملكيّة، وبالبيع يخرج المال عن كونه ملكاً للشخص، فلا موضوع للإذن أو عدم الإذن في التصرّف فيه. وأمّا بالنّظر إلى أثر البيع وهو تسليم المبيع للمشتري، فإنّه لا يخلو أنْ يكون تسليمه من جهة اعتقاده بصحّة البيع، أو يشكّ في صحّة البيع ولا يبالي فيسلّم الشيء، أو يعلم بفساده ومع ذلك يسلّم.
فإنْ كان عالماً بفساد البيع أو شاكّاً، فإن تسليمه المبيع إذنٌ في التصرّف لا محالة، بل إنه في صورة الشك يسلّم الشيء وإنْ كان ملكاً لنفسه لا للمشتري، وهذا في الحقيقة إذنٌ ورضا بالتصرف كما لا يخفى فضلاً عن الإمساك، سواء كان المشتري عالماً بالفساد أو جاهلاً أو شاكّاً، وسواء كان تصرّفه في نفس البلد أو في بلد آخر… فلا ضمان على المشتري مطلقاً، ولا وجه لشيء من التفصيلات المذكورة في بعض الكتب.
وإنْ كان معتقداً بصحّة البيع ويسلّم الشيء لكونه ملكاً للمشتري، فلا يخلو المشتري من احدى ثلاث حالات:
فإنْ كان عالماً بالفساد، لم يجز له الأخذ، لصدق التصرّف في مال الغير بلا إذن منه، لأن تسليمه ـ أي تسليم البائع ـ لم يكن إذناً في التصرّف في ماله، بل كان تسليماً لمال المشتري إليه، ويكون المشتري العالم بالفساد حينئذ غاصباً، والغاصب يؤخذ بأشدّ الأحوال.
ولو تنازعا، فقال البائع المعتقد بالصحّة للمشتري: خذ متاعك، وأعطني الثمن، فقال المشتري المعتقد للفساد: ليس هذا المتاع لي، فهل المورد من قبيل التداعي أو المدّعي والمنكر؟
وإنْ كان شاكّاً في الصحّة والفساد، فكذلك، لأن الأصل عدم كونه ملكاً له فيكون أخذه غصباً.
وإن كان معتقداً بالصحّة ـ كالبائع ـ فيكون تسليم البائع تسليماً لمال الغير للغير، وتسلّم المشتري تسلّماً لملك نفسه ولا يكون أخذه عدوانيّاً.
ولو زال الاعتقاد بالصحّة، إمّا من كليهما أو من البائع وحده أو من المشتري كذلك، فما الحكم؟
وقبل الورود في بيان الحكم نتعرّض لما قاله شيخنا الاستاذ، ولنقدّم له مقدّمةً:
إن القضايا على قسمين: منها حقيقيّة، وهي أن يتوجّه الحكم إلى الكلّي الطبيعي بضميمة صرف الوجود، ولازم ذلك أنْ تعمّ الأفراد الموجودة بالفعل والأفراد المقدَّرة. وهذا هو تعريف القضيّة الحقيقيّة عندنا، ونتيجة ذلك: أنه لو قال أكرم العالم، فاعتقد المكلّف بأن زيداً عالم وأكرمه، ثم تبيّن الخلاف، لم يكن ممتثلاً، وكذا لو نذر إكرام العالم، وهكذا… وكذا الحال في الأحكام الوضعيّة، لأنّ كلّ قضيّة حقيقيّة تخلّف المصداق فيها عن الكلّي، لم يتحقق به الامتثال، والأحكام الشرعيّة كلّها من هذا القبيل.
ومنها: خارجيّة، وفيها تكون العناوين دواعي للتّكليف، إذ الوجودات الخارجيّة جزئيّة، فلا يعتريها التقييد، لأنه عبارة عن تضييق الدائرة، ولا دائرة للجزئي الموجود في الخارج حتى يقبل التقييد.
فعلى هذا الأساس، قال شيخنا الاستاذ ما حاصله(1):
إنه إذا كان العقد فاسداً والبائع يعتقد صحّته، فإنّ الداعي له لتسليم المال للمشتري هو اعتقاده بالصحّة، والاعتقاد من العناوين، وقد ذكرنا أن تخلّف العنوان في الامور الخارجيّة لا يوجب تبدّل الحكم.
هذا حاصل ما أفاده.
لكن يمكن أن يقال: إن فيه تفصيلاً، لأنه إن كان يسلّم المال الخارجي للمشتري معتقداً بكونه ملكاً له، ففي هذه الصّورة لا يجوز للمشتري الأخذ والإمساك، وإنْ كان يسلّمه إيّاه بعنوان أنه ملكٌ لنفسه، ففي هذه الصّورة يكون راضياً بأخذ المشتري وتصرّفه، وللمشتري أخذه وإمساكه بلا إشكال.
وبعد:
فلو زال الاعتقاد بالصحّة من كليهما واعتقدا بالفساد، كان على المشتري تسليم المبيع إذا طالب به البائع، وإلاّ فلا مانع من إمساكه، لأن أخذه لم يكن عدوانيّاً والبائع غير مطالب به، نعم، ليس للمشتري أن يتصرّف فيه لعلمه بفساد العقد وبكون الشيء ملكاً للغير، ولا يجوز التصرف فيه إلاّ بإذنه.
والحاصل: إنه لا مانع من الإمساك، إذ الإمساك يحرم في صورتين، إحداهما: أن يكون أخذه عدوانيّاً والإمساك استمرار للعدوان، والآخر: أن يطالب البايع ويمتنع المشتري من ردّه.
وإنْ زال الاعتقاد بالصحّة من أحدهما دون الآخر، كان المورد من قبيل التداعي، وبيان الحكم فيه بإيجاز هو:
إنه إن كان الملاك في المدّعي والمنكر، أنّ المدّعي هو من كان دعواه على خلاف الظاهر أو الأصل، فإنّ ظاهر الحال هنا أن كليهما قاصدان للإنشاء وواجدان لشرائط الصحّة، كان مدّعي الصحة هو المنكر والقائل بالفساد هو المدّعي، وكذا الحال بناءً على أصالة الصحّة في العقود.
وإنْ كان مورد النزاع هو ملكية المبيع والثمن، كان من التدّاعي، فإن كان العالم بالفساد هو المشتري كان النزاع في الثمن، وإنْ كان العالم بالفساد هو البائع، كان النزاع في المبيع، والحكم في التداعي هو التحالف.
(1) حاشية المكاسب 1 / 348.