هل يجب ردّ المقبوض إلى مالكه
وأمّا الرابعة، فقد ذكر الشيخ أنه يحرم إمساكه فيجب ردّه، أمّا نحن، فقد اخترنا عدم حرمة الإمساك إلاّ في صورتين، فيجب الردّ فيهما دون غيرهما.
وبناءً على حرمة الإمساك، فما الدليل على وجوب الردّ؟
يمكن تقريب ذلك: بأنه إذا كان الإمساك حراماً، فإنّ مقدّمته ترك الردّ، ومقدّمة الحرام حرام، فيجب الردّ.
أو يقال: إذا حرم الإمساك وجب تركه، والردّ مقدّمة للترك، ومقدّمة الواجب واجبة، فيجب الردّ.
أقول:
الأحكام الشرعية كلّها بسائط، فليس الشيء الحرام شرعاً واجبَ الترك شرعاً أو بالعكس، بأنْ ينحلّ كلّ حكم إلى حكمين، نعم، الحكم الثاني عقلي، من باب نهيه عن المعصية.
وعليه، فإذا فرض كون الإمساك حراماً، لم يكن تركه ـ أي إرجاع الشيء وردّه إلى مالكه ـ واجباً.
وأيضاً، ليس مقدّمة الحرام حراماً إلاّ الجزء الأخير من العلّة التامة، بخلاف الواجب، فإن جميع مقدماته واجبة، لعدم تحقّق ذي المقدّمة بتخلّف واحد منها.
فالقول: بأن ترك الإرجاع مقدّمة للإمساك فيكون حراماً، باطل.
ثالثاً: ترك الضدّ لا يكون مقدمةً للضدّ الآخر.
وتحصّل سقوط التقريبين، وإنْ كان الثاني أجود من الأوّل الذي ذكره بعض الأكابر.
وللميرزا الاستاذ بيان آخر لوجوب الردّ، قال رحمه اللّه:
إن مفاد «على اليد» في دليل قاعدة اليد ليس الحكم التكليفي نظير «عليه الإعادة» و«عليه الوضوء» وأمثال ذلك، لأنّ مدخول «على» إنْ كان فعْلاً من الأفعال كما ذكرنا، وكما في الآية المباركة (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)(1) دلّ على وجوب ذلك الفعل، وأمّا إن كان أمراً خارجيّاً، كالمأخوذ في «على اليد ما أخذت» و«عليه الدين»، دلّ على الاستقرار في الذمّة، فالحديث المذكور دالّ على الضمان بالمطابقة، وهو يدلّ بالالتزام على وجوب الردّ.
فدلّت قاعدة اليد على وجوب الردّ، بقطع النظر عن البحث السندي فيها.
وفيه:
تارة: الغاية توجب تعنون الموضوع وتحدّده بحدٍّ، كقوله: «كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر» فإنه يعني: كلّ شيء لا تعلم قذارته فهو طاهر حتى تعلم قذارته. واخرى: الغاية مؤكدة للحكم واستمراره، كقوله تعالى (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ الْيَقينُ)(2) فعبادة الربّ غير منقطعة ولا آناًمّا ومستمرة حتى الموت. وثالثة: الغاية رافعة للحكم، كقولنا: «العصير العنبي حرام حتى يذهب ثلثاه» فذهاب الثلثين رافع للحرمة فيه.
وحديث قاعدة اليد من القبيل الثاني، يدلّ على استمرار الضمان وثبوته حتى يحصل الأداء والردّ، فأين الدلالة الالتزامية؟
والحاصل: إنّ الضمان لا يدلّ على وجوب الأداء، كما لا يدلّ قولك: «أنت في حماي حتى تسافر» على وجوب السفر.
فما ذكره لا يمكن المساعدة عليه[1].
[1] وهذه عبارة مقرّر بحثه: «ويدلّ عليه عموم «على اليد ما أخذت حتى تؤدي» فإنه وإنْ لم يكن متعرّضاً للحكم التكليفي بالدلالة المطابقيّة إلاّ أنه متعرّض له بالدلالة الالتزاميّة، فإنّ استقرار الضمان على عهدة القابض ملازم لوجوب الردّ، لأنه لا أثر لاستقرار الضّمان على العهدة إلاّ وجوب ردّ العين ما دامت العين باقيةً وردّ المثل أو القيمة لو كانت تالفة، فحرمة إمساك مال الغير من غير إذنه ووجوب ردّه إليه فوراً بالفوريّة لا إشكال فيه…»(3).
والإنصاف أن ما ذكره السيّد الجدّ في الجواب هو الصحيح، لا ما ذكره السيّد الخوئي من تسليم الدلالة الالتزاميّة، غير أنّ الحكم التكليفي المستفاد من الحديث هنا ليس هو وجوب الردّ لكي تترتب عليه حرمة الإمساك، وإنما الواجب على القابض هو التّخلية بين المال ومالكه.
لأنّ ما ذكره خلاف ظاهر الحديث جدّاً، لأن الغاية هي الردّ وهو لا يتحقق بالتخلية، وإرجاع الأمر إلى التخلية لا دليل عليه أصلاً.
ولم يتعرّض السيّد الجدّ طاب ثراه لتقريب المحقق الإيرواني الاستدلال بالحديث المذكور، مدّعياً أن ذلك أولى من الاستدلال بقوله عليه السلام: لا يحلّ… قال: «فالاولى تبديل الاستدلال به بالاستدلال بعموم على اليد، فإنه إن لم يكن مقصوراً ببيان التكليف، فلا أقلّ من أن يعمّ الوضع والتكليف جميعاً، بتقريب: أن مودّاه وجوب دفع العين مع قيامها ودفع البدل مع التلف».(4)
وهذا الاستدلال منه هنا عجيبٌ، لأنه يناقض كلامه في معنى الحديث، إذ قال بعد كلام له: «وعلى ذلك، فمعنى «على اليد ما أخذت» أنّ اليد مكلّفة بدفع ما أخذت أو حفظ ما أخذت حتى تؤدّيه، لكن تقدير الدفع باطل لا يلائم الغاية، فيتعيّن تقدير الحفظ، فحاصل الحديث: وجوب حفظ أموال الناس إذا وقعت تحت…»(5).
وأمّا جواب السيّد الخوئي فغير واف، فراجعه(6).
نعم، في صورة اعتقاد البائع بصحّة العقد والمشتري عالم بفساده، وكان تسليم البائع للشيء بعنوان أنه يؤدّي الملك إلى صاحبه، يكون أخذ المشتري غصباً والإمساك استمرار للغصب، والعقل حاكم حينئذ بوجوب الردّ.
(1) سورة آل عمران: 97.
(2) سورة الحجر: 99.
(3) منية الطالب 1 / 131.
(4) حاشية المكاسب: 96.
(5) حاشية المكاسب: 93.
(6) مصباح الفقاهة 3 / 122 ـ 123.