وأمّا ما ذكره المحقق الخراساني من أن المورد من دوران الأمر بين التعيين والتخيير، والأصل فيه هو التعيين، فعليه دفع المثل معيَّناً، فنذكر قبل النظر فيه فائدةً اُصوليّة هي:
إن دوران الأمر بين التعيين والتخيير على خمسة أقسام:
1 ـ أن يدور أمر تحصيل الشيء وامتثاله بين التعيين والتخيير، كما لو اُمر بحفظ الأمانة، ولا يدري هل يتحقق الامتثال بوضعها في أي مكان في الدار أو في الصندوق؟ ولا شبهة في أنّ الأصل هنا التعيين، لأنّ الإشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة.
2 ـ أن يعلم بوجوب شيء، ولا يدري هل الواجب عليه هو الشيء معيّناً أو أحد الشيء مخيّراً منهما؟ مثلاً: إذا علم بعد رمي الجمرة يوم العيد بوجوب شيء عليه بعد الرمي، ولكنْ هل هو خصوص الحلق أو أحد الأمرين من الحلق والتقصير؟
3 ـ أن يؤمر بشيء ولا يدري هل له عِدل أوْ لا، كما لو علم بوجوب إطعام ستّين مسكيناً وجهل هل عتق الرقبة عِدل فيكون مخيّراً بينهما؟ أو يؤمر بشيء ولا يدري هل الواجب عليه هو الشيء بخصوصه أو الجامع بينه وبين الشيء الآخر؟
4 ـ أنْ يخاطَب بواجبين ويقع الشك بين أنّ العطف بينهما كان بالواو حتى يجب عليه كلاهما على وجه التعيين، أو بأو حتى يكون الواجب أحدهما على نحو التخيير.
5 ـ أنْ يكون حكمان تعيينيّان ولا يقدر على امتثالهما معاً، فيقع التزاحم بينهما، وهو يحتمل أهميّة أحدهما من الآخر، فإنْ كانا متساويين فالتخيير، وإنْ كان أحدهما أهمّ فالتعيين.
وبعبارة اخرى:
تارة: يدور الأمر بين التعيين والتخيير العقليين في مقام الامتثال والخروج عن العهدة بعد العلم بالتكليف، كما لو اُمر بإزالة النجاسة وشك في الامتثال بالغسل مرّةً أو مرّتين، فهنا يجب عليه الإتيان بما يحتمل كونه دخيلاً في تحقق الامتثال، فلا يكتفي بالمرة في المثال أو وضع الوديعة في أيّ مكان في البيت كما في المثال السّابق، بل الأصل هو التعيين.
واخرى: يدور الأمر بين التعيين الشرعي والتخيير العقلي، كأنْ يعلم بأنّ الواجب عليه في الركوع إمّا التسبيح معيَّناً وإمّا مطلق الذكر والتسبيح من مصاديقه فيكون مخيّراً عقلاً بينه وبين غيره. فهنا: يوجد القدر المتيقَّن وهو الأقلّ، أي: مطلق الذكر، وأمّا الأكثر أي: الخصوصيّة، فمشكوك فيها، والأصل براءة ذمّته عن الأكثر، وكذا في مثال الواجب بعد الرّمي المذكور سابقاً.
وثالثة: يدور الأمر بين التعيين والتخيير الشرعيين، وهذا على ثلاثة أقسام: لأنه قد يكون في الشبهة الموضوعيّة، وقد يكون في الشبهة الحكميّة، وقد يكون في الحكمين المتزاحمين مع احتمال الأهميّة.
أمّا الشبهة الموضوعية، كما لو علم بأنّ المعصيّة الكذائية موجبة للكفارة وجهل بكون كفّارتها هي عتق الرقبة معيّناً أو أنه مخيّر بين العتق والإطعام مثلاً؟
وأمّا الشبهة الحكمية، كما لو أوجب أمرين كالعتق والإطعام وتردّد إيجابهما بين كونه بواو الجمع فهما واجبان، أو بأمر فهو مخيّر بينهما، ومثل ما إذا وجب عليه شيء كالصّلاة مع السّورة وجهل هل لها عدل وهو الصّلاة بلا سورة أوْ لا؟
وأمّا الحكمان التّعيينيّان المتزاحمان، كما لو قال: إفعل هذا، ثم قال: إفعل هذا، وكلّ من الأمرين مطلق، أي سواء فعلت ذاك أوْ لا، لكنّه غير قادر على امتثال كليهما، فلابدّ من رفع اليد عن الإطلاق، فإنْ كانا متساويين في الملاك، رفع اليد عن إطلاقهما والنتيجة هي التخيير، وإنْ كان ملاك أحدهما أهم من الآخر، قدّم على الآخر وسقط إطلاقه، ومع الشك فمقتضى الأصل تعيين محتمل الأهميّة، لعدم العلم بسقوط إطلاقه والعلم بسقوط إطلاق الآخر.
وأمّا في القسمين السّابقين، فعلى المبنى في الواجب التخييري:
فإنْ قلنا: بأن الجامع بين الفردين هو الواجب، رجع الشك إلى وجوب الخصوصيّة بعد كون الواجب هو الجامع، وتجري البراءة عنها، والنتيجة هي التخيير.
وإنْ قلنا: بأن هناك واجبين، فيجب كلٌّ منهما عند عدم القيام بالآخر ـ وكأنه قال: إفعل هذا إنْ لم تفعل ذاك، وإفعل هذا إن لم تفعل ذاك، فهما واجبان مشروطان ـ فالنتيجة هي التخيير كذلك، لأنه إذا أتى بأحدهما وشك في وجوب الآخر، كان من الشك في أصل التكليف وهو مجرى البراءة.
وإنْ قلنا: إن هناك واجبين ولكلٍّ منهما مصلحةٌ تامّة، ولكنْ هناك مصلحة اخرى هي السبب في جواز ترك كلٍّ منهما إلى البدل، فهي مزاحمة للجمع بين مصلحتي الواجبين، فلا مناص من أصالة التعيين، لأنه متيقّن بوجوب الفرد ويشك في وجود المصلحة المزاحمة الموجبة لجواز تركه، والأصل عدمها.
وبعد الفراغ عن هذه المقدّمة نقول:
إن دوران الأمر بين المثلي والقيمي، سواء كان بنحو الشبهة الموضوعية أو الحكميّة، يرجع إلى تعيين المثل أو الجامع بينه وبين القيمة، والأصل البراءة عن التعيين، والنتيجة هي التخيير.
وبهذا ظهر سقوط إشكال المحقق المذكور، وأن هذا هو الوجه الصحيح للقول بالتخيير. والعلم عند اللّه.
والتحقيق: أنه لا يمكن القول بتخيير الضّامن، أمّا من جهة أصالة البراءة عمّا زاد مع تقريبنا لذلك، فلأنه يرد عليه: أنّ القيمة ـ على ما في كتب اللّغة(1) ـ ما يعادل المتاع، أو الثمن الذي يقاوم المتاع، أي يقوم مقامه، وفي القاموس(2): قوّمت الشيء أي ثمّنته، فالمراد من «القيمة» هو «الثمن» لا «الماليّة» المطلقة، وعليه، يدور الأمر بين اشتغال ذمة الضّامن بخصوص المثل أو الثمن وهو عبارة عن الدرهم والدينار، فهو يدور بين المتباينين، فلا مجال للتمسّك بالبراءة.
وأمّا من جهة ما ذكره شيخنا الميرزا من التعارض بين احتياط الضامن واحتياط المالك، وإذْ لا طريق لتحصيل الموافقة القطعيّة فيتنزل إلى الموافقة الاحتمالية وهي تحصل بإعطاء أيٍّ منهما، فالجواب عنه: إنّ الموافقة القطعيّة تحصل بإحضار الفردين عند المالك والتخليّة بينه وبينهما، أمّا أنّه لا يجوز شرعاً للمالك أخذهما أو أحدهما المعيَّن، فلا يكون مانعاً عن حصول البراءة للضّامن. وبعبارة اخرى: عدم تمكّن المالك من التصرّف شرعاً لا ربط له بتكليف الضّامن، فإنه بإحضارهما متيقّن بفراغ ذمّته.
وبالجملة، فالقول بتخيير الضّامن ساقط.
(1) مجمع البحرين 3 / 570.
(2) القاموس المحيط 4 / 168.