دليل المشهور
وأمّا المشهور، فقد استدلّ الشيخ لقولهم بعموم النبوي: لا يحلّ… بناءً على صدق المال على المنفعة.
ولكنّا قلنا أنّ كلمة «عن» للتجاوز، أيْ الحليّة الناشئة عن طيب النفس، وهذه هي الحليّة الوضعيّة لا التكليفيّة.
أمّا في الحديث الذي ذكرناه سابقاً: «لا يحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله إلاّ بطيبة نفسه» فالحليّة فيه تكليفيّة على ما تقدّم.
وعلى كلّ تقدير، فمراد الشيخ من الاستدلال هنا هو: أنّه لولا طيب النفس من صاحب المال فهو باق على ملكه، وحينئذ يكون صغرى لكبرى قاعدة: من أتلف مال الغير فهو له ضامن، وبهذا الترتيب يتمّ قول المشهور بالضّمان، لأن طيب النفس مفقود فالملك باق على ملك صاحبه، ومنافعه كذلك بتبعه، وقد أتلفها المشتري، فهو لها ضامن.
وهذا هو استدلالنا[1].
[1] وهكذا يندفع إشكال المحقق الإيرواني إذ قال: المتبادر من إتلاف المال إخراجه عن الماليّة بتضييعه، لا إتلافه في سبيل الانتفاع به كأكل المأكول وشرب المشروب. اللهم إلاّ أنْ يقال: إنّ إتلاف المال على صاحبه يحصل بأكله وشربه. ويدفعه: إن صدق الإتلاف فرع صدق مادّة التلف، فإذا لم يكن المأكول تالفاً لم يكن الأكل إتلافاً، إلاّ أن يراد من الإتلاف هنا خلأ كيس صاحبه عنه لا الإتلاف الحقيقي المنوط بتحقّق التلف. وفيه: إنّ هذا يحتاج إلى شاهد خارجي، ومجرّد الإستحسان لا يجدي في حمل اللّفظ عليه بعد كونه خلاف ظاهره(1).
واستدلّ بعض الأكابر[2] بقاعدة على اليد، وكيفيّة الاستدلال بتقريبين منّا:
[2] قال المحقق النائيني: «المعروف فيه هو الضّمان، وذلك لأجل قاعدة اليد، لصدق اليد على المنفعة بواسطة اليد على العين كما تقدم»(2) لكنّ صريح غيره كالمحقّق الإصفهاني والمحقق الإيرواني والمحقق الخوئي عدم تماميّة الاستدلال بقاعدة اليد في المقام.
أحدهما: بالدلالة المطابقية، فإن «ما» الموصولة شاملة للمنافع، ومفاد «على اليد» هو «الضمان» و«الأخذ» هو «التناول» وهو يعمّ الامور المعنويّة، مثل قوله تعالى (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)(3) و(أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِاْلإِثْمِ)(4) والمراد من «اليد» هو الاستيلاء كما في قوله تعالى: (تَبارَكَ الَّذي بِيَدِهِ الْمُلْكُ)(5) وقوله: (بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ)(6) ونحوهما، فعلى المتناول بالاستيلاء، أي المستولي ضمان ما استولى على عيناً كان أو منفعةً.
والثاني: بالدّلالة الالتزاميّة بعد التنزّل عن الدلالة المطابقيّة بأن يقال: إنّ ضمان العين يستلزم ضمان المنافع، وبعبارة اخرى: ضمان المنافع من آثار ضمان العين، بل إنّ ماليّة العين بمنافعها.
ومقتضى الإنصاف عدم تماميّة الاستدلال بكلا تقريبيه وذلك:
لأن الموصولة وإنْ شملت المنفعة، وقلنا بعموم «الأخذ» لغير الأعيان، وجعلنا «اليد» بمعنى الاستيلاء، لكن الغاية «حتى تؤدّي» أي المأخوذ، وسواء كانت «حتى» دالّةً على الاستمرار إلى مجئ الغاية، كما في قوله تعالى (سَلامٌ هِيَ حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) فالضمان مستمر حتى يتحقق الأداء، أو كانت رافعةً لحكم المغيّى كما في «العصير العنبي إذا غلا يحرم حتى يذهب ثلثاه» فإنّ هذه الغاية لا تنطبق إلاّعلى العين، لأن الرّكوب والسكنى ونحوهما من المنفعة لا تقبل الأداء.
إنْ قلت: إذا كانت المنفعة غير قابلة للأداء فهي داخلة في المغيّى، نظير «كلّ شيء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر» فما لم تعلم بقذارته فهو طاهر، وعليه فما لم يؤد فهو مضمون، فالمنافع مضمونة.
قلت: عدم الأداء عدم الملكة لا سالبة بانتفاء الموضوع، على أنْ جعل «حتّى» هنا بمعناها في الرواية غير صحيح، فهي للاستمرار أو لرافعيّة الحكم، وعلى كلا التقديرين، تكون القاعدة مختصّةً بالأعيان الخارجية.
ولنا جواب عن التقريب الثاني بوجه آخر وهو:
إنا نسلّم أن المنفعة مقوّمة لمالية العين ولولاها فلا مالية لها، وأنّ ضمان العين في الحقيقة ضمانٌ لماليّتها، فالمنافع مضمونة، ولكنْ هل المنفعة واسطة للعروض أو للثبوت؟ فلمّا نقول: العين مالٌ، هل وجود المنفعة واسطة لثبوت المالية للعين أو أنها واسطة لعروضها عليها؟
ولكنّ الجواب: هل المنافع المقوّمة لمالية العين واسطة في الثبوت، فالعين تكون مالاً بسبب المنافع، أؤ في العروض فلمّا نقول العين مال فالمعنى: منافعها مال؟
إنْ كان الثاني، كان قولنا: الدار مالٌ، الدابّة مال… وأمثال ذلك كلّه، مجازاً، لأن الإسناد في الواسطة في العروض مجازي دائماً.
فالصحيح هو الأوّل، أي: إنّ المنافع تكون سبباً لماليّة العين، وعلى هذا، فلا معنى حينئذ لإسناد الضمان إلى المنافع.
فالحق: هو الاستدلال بقاعدة الإتلاف كما ذكرنا[3].
[3] ولم يتعرّض للاستدلال بقاعدة نفي الضّرر، ولعلّه لوضوح عدم تماميّته لأنّ الواقع على المالك عدم الانتفاع، وصدق الضرر عليه أوّل الكلام. وأيضاً: إن هذه القاعدة نافية للحكم الضرري وليست مسوقةً لإثبات الحكم الشرعي.
كما لم يتعرّض للسّيرة العقلائيّة، وقد استدل بها بعض الأعاظم كالسيّد الخوئي رحمه اللّه(7). ولعلّه لكونها متوقّفةً على الإمضاء، وليس دليله إلاّ ما ذكر، فتدبّر.
ولكن مقتضى النظر الدقيق أن يقال: بأنّ البائع حين تسليمه العين إنْ عالماً بفساد العقد، كان مسلِّماً لملكه للغير فهو راض بتصرفات الغير فيها ومنها استيفاء المنافع، وإنْ كان جاهلاً بالفساد ـ وهو يسلّم العين معتقداً بكونها ملكاً للمشتري ـ كان المشتري ضامناً للمنافع إنْ استوفاها، ويشهد بذلك ما في ذيل صحيحة أبي ولاّد، من قوله: «إني كنت أعطيته…» فقال عليه السّلام: «إنما رضي… ولكنْ إرجع إليه وأخبره بما أفتيتك به، فإنْ جعلك في حلٍّ بعد معرفته فلا شيء عليك بعد ذلك…»(8).
فالحاصل: إنّ الاستدلال للضّمان في المنافع المستوفاة من باب الإتلاف هو الصحيح، وذلك إنْ كان المالك جاهلاً بفساد البيع.
هذا كلّه في المنافع المستوفاة.
(1) حاشية المكاسب: 96.
(2) المكاسب والبيع 1 / 329.
(3) سورة البقرة: 255.
(4) سورة البقرة: 206.
(5) سورة الملك: 1.
(6) سورة البقرة: 237.
(7) مصباح الفقاهة 3 / 130.
(8) وسائل الشيعة 19 / 119، الباب 17 من أبواب الإجارة، الرّقم: 1.