قال الشيخ:
المشهور ـ كما عن غير واحد ـ اشتراط الماضويّة، بل في التذكرة: الإجماع على عدم وقوعه بلفظ أبيعك، أو اشتر منّي. ولعلّه لصراحته في الإنشاء… .
أقول:
اعترض(1) على قوله «لصراحته في الإنشاء» بأنّه لا فرق بين الماضي والمستقبل في حيثيّة الإنشاء، لأن الإخبار والإنشاء من وجوه الاستعمال وكيفياته، لا أنهما من مداليل اللّفظ، فالقول بأن الفعل الماضي صريح في الإنشاء، موهم لأن يكون الإنشاء مدلولاً له وأن المضارع ليس كذلك، والحال أنّ الإنشاء لا علاقة له بعالم المعنى الموضوع له اللّفظ.
وهذا الاعتراض بظاهره وجيه، ولكنْ يمكن تقريب كلام الشيخ بحيث لا يرد عليه ذلك، بأنْ يقال:
قد قرّرنا في الاصول أنّ الفعل دائماً مُركّب من المادّة والهيئة، المادّة معنىً اسمي يدلّ على نفس الحدث، وأمّا الهيئة ـ وقوام الفعل بها ـ فتدلّ على النسبة، والزمان خارج عن مفهوم الفعل ومدلوله، أمّا المادّة، فعدم دلالتها على الزمان واضح، وأمّا الهيئة فمعناها نسبي والزمان معنىً اسمي، فلا يعقل كونه مدلولاً للهيئة. وما يقال من أن «فَعَل» يدلّ على الماضي و«يفعل» يدلّ على الحال والاستقبال، فالمراد منه الدلالة الالتزاميّة، لا أن الزمان داخل في مفهوم الفعل وحاقّ معناه.
ثم إنّ الفعل الماضي تدلُّ هيئته على نسبة المبدء المتحقق الموجود في الخارج إلى فاعله، والمضارع يدلّ على نسبة تلبس الفاعل بالمبدء، ولذا إن وقع الماضي في حيّز الإخبار، حكى عن المادّة المنتسبة إلى الفاعل نسبة التحقّق والوجود، ودلّ بالملازمة على المضيّ بالنسبة إلى حال التكلّم، وإنْ وقع المضارع في حيّز الإخبار، حكى عن تلبّس الفاعل بالمبدء إمّا الآن وإمّا فيما بعد، ولذا اشتهر كون المضارع مشتركاً بين الحال والإستقبال.
وأمّا الإنشاء، فإن أنشأ المادّة المنتسبة بالنسبة التحقّقية أي الفعل الماضي، فلا زمان لعدم الحكاية، ولذا يكون الماضي صريحاً في الدلالة، وإنْ أنشأ المادّة المنتسبة إلى الفاعل بالنسبة التلبسيّة وهو الفعل المضارع، ناسب الحال والإستقبال، ولتردّده بين الزمانين فلا يكون الإيجادُ بالفعل، فلذا ليس للمضارع صراحة.
هذا كلّه على مبنى المشهور.
وأمّا على مبنى الميرزا الاستاذ، فهيئة «يفعل» موضوعة للنسبة التلبسيّة، وهي ظاهرة في الفعليّة، فلو اريد منه الاستقبال فلابدّ من الإتيان بالسين أو سوف أو كلمة الغد مثلاً، فالمضارع ليس مشتركاً، ولذا أفاد في البحث بأنه إذا أنشأ الماضي فقد أنشأ النسبة التحققيّة فهو يفيد التحقق بالمطابقة، وإذا أنشأ المضارع فإنّ حيثية التلبس ملازمة للتحقّق وليست نفس التحقّق، فالدلالة التزامية، فالإنشاء بالماضي يكون صراحةً وبالمضارع يكون بالكناية، وحيث أنه لا يرى إنشاء العقد بالكناية، فهو لا يجوّزه بالفعل المضارع.
وبما ذكرنا ظهر مراد الميرزا الاستاذ، وكذا مراد شيخنا الاستاذ وإنْ كان ظاهر عبارته مخدوشاً]1[.
]1[ أقول: ولا بأس بإيراد نصّ العبارتين، قال الأوّل: «هيئة الماضي من كلّ لغة موضوعة لنسبة تحقيقيّة، أعني لإيجاد نسبة تحقيقيّة بين الفاعل وبين المادّة، وتلك النسبة معنى حرفي توجد بإيجاد موجدها بتلك الهيئة في موطن الاستعمال، فإن كان الغرض من إيجادها هو الحكاية عن النسبة الواقعة بين الفاعل والحدث في الخارج، تدلّ على وقوعها أي النسبة المحكيّة عنها في زمان متقدّم على الحكاية في الزمانيّات، فتدلّ على الزمان الماضي بالدلالة الالتزاميّة العقلية، وإنْ كان الغرض إيجاد المادّة التي هي معنىً اسمي كالبيع في وعاء وجودها وهو عالم الاعتبار، تكون بالصّراحة دالّةً على إيقاعها. وأمّا المضارع، فهو موضوع للنسبة التلبّسية، فدلالتها على إيقاع المادّة بها لا تكون على نحو الصراحة، بل هي على نحو من الكناية، لكون التلبّس بالشيء من لوازم تحقّقه فلا يقع بها، لما عرفت من عدم وقوع الإنشاء بالكناية»(2).
وقال الثاني ـ في التعليق على: لصراحته في الإنشاء ـ : قد مرّ مراراً أنّ الإنشاء والإخبار من وجوه الإستعمال، وأن معنى «بعت» معنى قابل للإنشاء والإخبار. بل الفرق بين الماضي والمضارع: أن الماضي إذا كان في موقع الإنشاء والمعاملة، فلا محالة يكون منسلخاً عن الزمان الماضي، لأن إيجاد شيء في الزمان الماضي محال، فلم يبق إلاّ قصد إيجاد الملكيّة، ومع تماميّة العلّة يتحقّق المعلول قهراً. بخلاف المضارع، فإنّ قصد ثبوت الملكيّة حالاً أو استقبالاً معقول فلا موجب لانسلاخ المضارع عن الحال والإستقبال، وحيث أنه مشترك بين الحال والاستقبال، فلا دلالة له بنفسه على ثبوت الملكيّة في الحال، وحينئذ، فإنْ كانت القرينة مقاميّة، أمكن الإشكال بعدم تأكّد المعاهدة لتقوّمها إثباتاً بغير اللّفظ، وإنْ كانت القرينة مقاليّة، أمكن تصحيحه بأنّ المجموع الدالّ على المعاهدة لفظ له ظهور نوعي في المراد»(3).
أمّا كلام المحقق النائيني، فلم يشكل عليه السيّد الجدّ بعد تقريره، اكتفاءً منه بما تقدّم من صحّة العقد بالكناية، وأمّا كلام المحقق الإصفهاني، فقد أوضحه بما يندفع به الإيراد على ظاهر قوله بانسلاخ الماضي عن الزمان إذا وقع موقع الإنشاء.
والظاهر أنّ كلاًّ منهما يحاول إثبات الصّراحة في الفعل الماضي وعدمها في المضارع، وكأنّ الأصل في اعتبارها هو كلام العلاّمة إذ قال في شروط الإيجاب والقبول: «الثاني: الإتيان بهما بلفظ الماضي، فلو قال: أبيعك أو اشتر منّي، لم يقع إجماعاً، لانصرافه إلى الوعد، ولو تقدّم القبول بلفظ الطلب بأنْ قال بعني، بدل قوله: اشتريت، فقال البائع: بعتك، لم ينعقد… لأنّه ليس صريحاً في الإيجاب، فقد يقصد أنْ يعرف أن البائع هل يرغب في البيع… نعم، لو قال المشتري بعد ذلك: اشتريت أو قبلت، صحّ إجماعاً. ولو تقدّم بلفظ الاستفهام فيقول: أتبيعني؟ فيقول: بعتك، لم يصح إجماعاً، لأنه ليس بقبول ولا استدعاء»(4).
وحاصله: إن الماضي صريح في الإنشاء، أمّا المضارع ففيه شبهة الانصراف إلى الوعد، وفي الأمر شبهة الاستدعاء، ولذا قال الشيخ «ولعلّه لصراحته في الإنشاء، إذ المستقبل أشبه بالوعد، والأمر استدعاء لا إيجاب» أي: إذا وقع موقع الإنشاء يكون صريحاً فيه بخلاف المضارع والأمر.
وكأنّ الأصل في ذلك كلّه هو وقوع العقود بصيغة الفعل الماضي، وقلّة وقوعها بغيره، فلمّا رأوا ذلك علّلوه بوجود الصّراحة فيه دون غيره، فاعتبروا الماضويّة بل ادّعى عليه العلاّمة الإجماع.
لكنّ الشبهة في كلٍّ من المضارع والأمر ـ بعد التسليم ـ تندفع بقيام القرينة، فتكون الصّيغة حينئذ ظاهرةً في إرادة الإيجاب، وقد تقدّم كفاية ذلك كما تقدّم صحّته بالكناية. هذا بقطع النظر عن العمومات والنصوص الخاصّة. وبما ذكرنا ظهر أنّ الإجماع المذكور ليس الإجماع الحجّة الكاشف عن رأي المعصوم أو الدليل المعتبر.
(1) حاشية المحقق الإصفهاني 1 / 276.
(2) المكاسب والبيع 1 / 283.
(3) حاشية المكاسب 1 / 276.
(4) تذكرة الفقهاء 10 / 8 ـ 9.