حكم ما لو سقط المثل عن الماليّة
قال الشيخ:
بقي الكلام في أنه هل يعدّ من تعذّر المثل خروجه عن القيمة، كالماء على الشاطئ إذا أتلفه في مفازة والجمد في الشتاء إذا أتلفه في الصيف، أمْ لا؟ الأقوى بل المتعيّن: هو الأوّل… .
أقول:
قد ذكرنا أن المضمون هو العين إذا تلفت، وقوام معنى الضّمان هو التعهّد بتدارك الخسارة الماليّة، وأنّ المعتبر ثبوته في الذمّة هو الماهيّة القابلة للصّدق على مماثل التالف ـ لا العين الخارجيّة ولا مثل العين، إذْ لا معنى لاعتبار الوجود الخارجي بخارجيّته ـ وهي المراد من المثل، فالمثلي ما إذا تلف يعتبر في الذمّة ماهيّته التي لها مصداق في الخارج، وذلك المصداق مماثل للتالف، ونحن، وإنْ قلنا في البحوث السابقة بأنه يجوز عقلاً اعتبار ثبوت الماهيّة في الذمّة وأنه يجب دفع المصداق الخارجي، لكنّا ذكرنا أنْ هذا الأمر العقلي ممّا لا يتنبّه له أهل العرف الّذين اُلقيت إليهم نصوص الضمان وهم المخاطبون فيها.
فعلى مسلكنا المزبور ـ وهو الصحيح ـ لا مناص من الحكم بوجوب دفع القيمة في مسألتنا، لأنّ ما لا ماليّة له لا يتدارك به المال، فلابدّ من دفع القيمة، وسيأتي بيان ما يجب دفعه.
وربما يظهر من صاحب الجواهر(1) الميل إلى كفاية دفع المثل وإنْ كان ساقطاً عن الماليّة، لوجوه:
أحدها: إنه قد تقرّر عند المشهور أنّ المثلي بالمثل، فإذا دفعه خرج عن العهدة وإنْ كان خارجاً عن القيمة، فهو كما لو اشترى عيناً بالبيع الفاسد أو غصبها، فكانت حين الردّ إلى مالكها خارجةً عن القيمة، حيث لا إشكال في خروجه عن العهدة بردّها إليه كذلك.
والثاني: إنّ المثل الذي يضمنه الضامن هو المماثل للتالف في الذّات والصّفات، وأمّا ماليّته فلم تكن مضمونةً، ولذا يكون دفع المثل مبرءاً للذمّة وإنْ كانت قيمته أقلّ قيمة التالف. وأيضاً: يجب عليه دفعه وإنْ كانت قيمته أكثر، ولا يجوز له مطالبة الفرق من المالك، فلو كانت ماليّة التالف مضمونةً لطالب المالك بالفرق في الفرض الأوّل والضامن في الفرض الثاني.
والثالث: ما رواه معاوية بن سعيد في الصّحيح: «عن رجل استقرض دراهم من رجل وسقطت تلك الدراهم أو تغيّرت، ولا يباع بها شيء، ألصاحب الدراهم الاولى أو الجائزة التي تجوز بين الناس؟ فقال: عليه السلام: لصاحب الدّراهم الدراهم الأولى»(2).
فقوله: «سقطت أو تغيّرت» والسّقوط المقابل للتغيّر عبارة عن السقوط عن الماليّة بالكليّة، دليلٌ على أنّ الواجب دفع المثل وإنْ خرج عن القيمة، والدراهم من المثليّات.
والرابع: إنه على فرض الشك في بقاء المثل على الذمة بسقوطه عن القيمة يستصحب بقاؤه ويكون إعطاؤه موجباً لفراغ الذمّة.
لكنّ الإنصاف عدم إمكان المساعدة على ذلك، لأنّا لو سلّمنا اشتغال الذمّة بالمثل، فإنه لا موضوعيّة للمثل، وإنما اشتغلت الذمّة به لأجل أنْ يتدارك به المال التالف، ولا معنى لأنْ يتدارك بما لا ماليّة له، فإذن، لابدّ أنْ يكون مِثلاً ذا ماليّة حتّى يحصل به التدارك.
وقياس ما نحن فيه بالمبيع بالبيع الفاسد الموجود فعلاً أو المغصوب، في غير محلّه، لأنّ الضمان هناك ضمان اليد، وعلى اليد ما أخذت حتى تؤدّي، فعليه أداء العين المفروض بقاؤها، سواء كانت باقيةً على قيمتها أو زادت أو نقصت، والضمان فيما نحن فيه ضمان الإتلاف والواجب فيه الخروج عن عهدة الخسارة.
وهذا جواب الوجه الأوّل.
وأمّا الثاني ففيه: إنّه قد اشتغلت الذمّة بالمثل على وجه الطريقيّة لأداء الخسارة لا الموضوعيّة، وإذا سقط عن المالية لم يتحقق بدفعه تدارك الخسارة، إذ لا يتدارك المال إلاّ بالمال.
وقياس ما نحن فيه بصورة نزول القيمة أو صعودها، في غير محلّه كذلك، لأنّ التدارك في هذه الصّورة حاصلٌ لِمالية المثل، بخلاف مسألتنا حيث لا ماليّة للمثل أصلاً.
وأمّا الصّحيحة، فالمراد من «السقوط» فيها هو الخروج عن الرّواج في السّوق، لأنّ الدراهم لا تسقط عن الماليّة، فسقط الاستدلال بها للمقام.
على أنّ الموضوع في الصّحيحة هو القرض، ولا ريب في وجوب إرجاع الشيء المقترض إذا كان باقياً، سواءً نقصت قيمته أو زادت، ولذا يمكن القول بأنه لو اقترض ماءً جاز له أداؤه على شاطئ البحر، لكنّ الكلام هنا في الضمان وتدارك الخسارة، فإنه لا يحصل بما لا ماليّة له.
وبما ذكرنا يظهر أنْ لا مجال للشكّ، نعم، لو وصلت النوبة إليه لكان المحكّم هو الاستصحاب كما ذكر.
هذا كلّه في أصل المسألة.
قال الشيخ:
والمصرّح به في محكّي التذكرة والإيضاح والدروس: قيمة المثل في تلك المفازة، ويحتمل آخر مكان أو زمان سقوط المثل عن الماليّة.
أقول:
إنْ كان الضّمان هو ضمان العين وأنّ الواجب هو الخروج، عن العهدة بالنسبة إليها كما هو المختار، وجب دفع قيمة المثل في المغازة إذا أتلف الماء فيها، وقيمة الجمد إذا أتلفه في الصّيف. وإنْ كان المثل في الذمّة كما عليه المشهور، فالمتعيّن هو آخر مكان أو زمان سقط المثل فيه عن الماليّة، واللّه العالم.
(1) جواهر الكلام 37 / 99.
(2) وسائل الشيعة 18 / 207، باب حكم من كان له على غيره دراهم…، الرّقم: 4.