حكم تقدّم القبول في العقود الاخرى
قال الشيخ:
ثم إن ما ذكرنا جار في كلّ قبول يؤدى بإنشاء مستقل كالإجارة… والنكاح… .
ملخّص ما أفاده بتوضيح منا:
إنّه يجري ما تقدّم من جواز التقديم، في كلّ عقد يؤدّى فيه القبول بإنشاء مستقلّ كالإجارة، بأنْ يقول مقدّماً: استأجرت، فيقول الموجب: آجرت، وكالنكاح، بأنْ يقول مقدّماً: تزوّجت، فيقول ذاك: زوّجت، لأنّ القبول كذلك في الإجارة يتضمّن نقل المال بالفعل، وفي النكاح يجعل نفسه بالفعل زوجاً.
لكنّ الشيخ قد أشكل من قبل في جواز التقديم بقوله:
نعم، يشكل الأمر بالمعهود المتعارف… فالحكم لا يخلو من شوب الإشكال.
فنقول:
إنّ كانت صحة هذه المعاملات مستندة إلى السّيرة العمليّة الممضاة، فمن المعلوم أنّ مورد الإمضاء ما كان معهوداً متعارفاً من الصيغة، وهو الإيجاب المقدّم والقبول المؤخّر، فمورد تقدّم القبول لم يكن متعارفاً، فليس بممضىً من الشارع.
وكذا إن كانت اللاّم في آية الوفاء للعهد، أو أنّ الآية مسوقة للإمضاء، وكذا آية الحلّ… .
أمّا إنْ كانت اللاّم للعموم، وكان الاطلاق في آية الحلّ محكّماً، فلا وجه للإشكال، وهذا هو الأقوى كما تقدم، نعم، الإحتياط في محلّه كما لا يخفى.
وأمّا المنع، من جهة أنّ القبول مطاوعة فلا يعقل تقدّمه، كما ذهب إليه شيخنا الميرزا، فقد قلنا أنّ هذه المطاوعة إنشائية لا خارجيّة، فلا مانع من تقدّمه. وأيضاً: القبول هو الرضا، وليس في البين مطاوعة أصلاً.
فتحصّل: عدم الإشكال في التقديم في البيع، وكذلك في الإجارة والنكاح بلا إشكال، لأنّ المناط هو الرّضا، وهو كما يجوز مؤخّراً كذلك مقدّماً.
قال الشيخ:
وأمّا ما لا إنشاء في قبوله إلاّ قبلت أو ما يتضمّنه كارتهنت، فقد يقال بجواز تقديم القبول فيه… والتحقيق عدم الجواز… وكذا القول في الهبة والقرض… .
وملخّص ما أفاده بتوضيح منّا:
إن من العقود ما لا يحصل فيه النقل من قبل القابل أصلاً، كعقد الوديعة، حيث لا ينقل المودع شيئاً، والوكالة، إذ ليس فيها نقلٌ، والقرض، إذ لا شيء من ناحية المقترض، والعارية، فإنّه يعير الشيء للانتفاع به ولا يعطي المعير شيئاً، والهبة غير المعوّضة، والوصيّة… وبالجملة، فإنه لا يقع من طرف القابل نقل في هذه العقود، بل قبوله فيها صرف الرضا.
فهل يجوز تقديم القبول في هذه العقود؟
إنّ من هذه العقود ما ليس فيه من ناحية القابل إلاّ القبول، ولا يلزم إلاّ الرضا، كالعارية والوديعة والوكالة، فيجوز فيها التقدم، كأنْ يقول: أقبل أن أكون لك وكيلاً، أو يكون هذا الشيء وديعةً عندي، وهكذا… لجواز الرضا بأمر متأخر.
ومن العقود ما يترتب فيه الأثر على العنوان، مثل: المقترض له حكم كذا، المرتهن له حكم كذا، المتّهب له حكم كذا… ففي هذه العقود يعتبر ـ بالإضافة إلى الرّضا ـ صدق عنوان كونه مقترضاً أو مرتهناً أو متّهباً… ولمّا كانت هذه العناوين مطاوعيّة، فلابدّ من وجود الرهن أو القرض… حتّى يتحقق الصّدق، فلا يجوز التقدّم.
لا يقال: الأمر في اشتريت ـ مثلاً ـ كذلك، فإنه يتحقق هناك عنوان المشتري، وهو لا يصدق إلاّ مع تقدّم البيع.
لِما تقدم من وجود النقل بالفعل هناك، والكلام هنا فيما لا نقل من القابل أصلاً.
فنقول:
قد ذكر أنه في مثل الوكالة والوديعة والعارية، لا يعتبر أزيد من الرضا بالإيجاب، ولذا يعبّر عنها بالعقود الإذنية، فيجوز تقديم القبول فيها على الإيجاب.
وفيه نظر، للفرق بين الإذن والوكالة مثلاً، فلو قال: أذنت لك أن تفعل كذا، تحقّق منه الإذن حتى لولم يقبل الطرف المقابل ولم يفعل ذلك الفعل، بخلاف الوكالة، فإنها إنابة للوكيل في العمل ولا يكفي فيها صِرف الإذن والرضا، فكم فرق بينهما؟
وأيضاً، فإن الإذن لا يسقط بالردّ والوكالة تسقط، والوكيل لو عمل وتبيّن كونه معزولاً صحّ عمله، بخلاف المأذون.
وأيضاً: قد تقدم أنّ القبول في العقود نظير قبول التوبة والعذر، وليس بمعنى الانفعال فإنه في الامور القهرية، ولا تتخلّل الإرادة بين الفعل والانفعال، بل هما واحد في الحقيقة، ينسب إلى أحدهما بالفاعلية وإلى الآخر بالانفعال، وأمّا حيث تتخلل الإرادة فوجودان، يصدر أحدهما من ذاك ويتحقق الآخر بإرادة هذا، ففي كلّ مورد تخلّلت الإرادة فلا معنى للانفعال.
هذا أوّلاً.
وثانياً: إن المشتري إنما ينسب القبول إلى نفسه مجازاً، كما تقدّم.
وثالثاً: إنه لا مانع من إنشاء المطاوعة وأن تكون فعليتها بعد مجئ الإيجاب، سواءً كان العقد من قبيل القسم الأول كالوكالة ونحوها، أو القسم الثاني كالرّهن والقرض والهبة، ولا دليل على فعليّة هذه العناوين في حين الإنشاء.
قال الشيخ:
وأمّا المصالحة المشتملة على المعاوضة، فلما كان ابتداء الالتزام بها جائزاً من الطرفين… كان البادي منهما موجباً… ثم لما انعقد الإجماع على توقّف العقد على القبول، لزم أن يكون الالتزام الحاصل من الآخر بلفظ القبول… وتحقق من جميع ذلك أن تقديم القبول في الصلح أيضاً غير جائز… .
توضيحه:
إنه يعتبر لفظ القبول في المصالحة، لأن المصالحة على قسمين، فمنها: المصالحة غير المعوّضة، ولا يجوز فيه إلاّ القبول متأخّراً، إذ لا يكون شيء من قبل المصالح له إلاّ الرضا والقبول لما فعله المصالح. ومنها: المصالحة المشتملة على المعاوضة، فإنّ كلاًّ منهما يلتزم بشيء، فهما متساويان من حيث الالتزام، ونسبة المصالحة إلى كلّ منهما على حدّ سواء، فأيهما كان البادي فهو الموجب، فلا معنى لفرض القبول المتقدّم.
وهل يجوز له أن يقول متأخّراً «صالحتك» أو يعتبر لفظ القبول؟ قال الشيخ: لا يجوز، إذ لو قال أيضاً: صالحتك كان إيجاباً آخر، فيلزم تركّب العقد من ايجابين، وقد قام الإجماع على توقف العقد على القبول، وقد ذكرنا سابقاً أنه لا يبعد أنْ يكون هذا الإجماع برهانياً، لأنّ توارد العهدين على مورد واحد شيء، والارتباط بين العهدين المحقق لعنوان العقدية شيء آخر.
أقول:
إن قال: «صالحتك هذا على أن ذاك لي» فكلام الشيخ متين جداً، وأمّا إنْ قال: صالحتك على أن يكون هذا بعوض هذا، بأن تكون مصالحةً تسدّ مسدّ الإجارة مثلاً من حيث المعاوضيّة، كما لو قال: صالحتك على أنْ يكون الانتفاع بداري بكذا درهم، أو: صالحتك على أن تكون لك داري بكذا درهم، ففي هذه الصورة لا مانع من التقدّم على أنْ يكون قبولاً ولا يكون إيجاباً.
Menu