جهات البحث في المسألة
ولا بأس بالإشارة إلى جهات البحث في المسألة:
هل استعارة المحرم للصيد فاسدة؟
هل هذا الضمان، ضمان التلف أو الإتلاف أو بدل الحيلولة؟
هل يوجد فرقٌ بين أن يعلم المعير بكون المستعير محرماً وجهله بذلك؟
هل للمحرم أن يردّه إلى مالكه أوْ لا بل يرسله؟
لو ردّه إلى مالكه تبرأ ذمّته من القيمة أوْ لا؟
الظاهر أنه لم يقل أحد بفساد عارية المحرم، وإنما هو احتمال من الشهيد الثاني، وهو غير بعيد، لا من جهة اقتضاء النهي لذلك، لعدم الخلاف ظاهراً في حرمة استعارة المحرم الصّيد، بل لما تقرّر في الاصول من أنّ النهي في المعاملة وإنْ لم يكن موجباً للفساد إلاّ أنه ليس على إطلاقه، بل فيه تفصيل، فإنْ كان النّهي عن إيجاد المعاملة، لم يوجب الفساد بل ربما يقال بأنه يدلّ على الصحّة، وإنْ كان عن الأثر المترتب عليها، فالمعاملة التي لا أثر لها لا يعقل أنْ تكون صحيحةً.
ولمّا كان المقصود من العارية هو الانتفاع من الشيء، لكنّ المحرم لا يجوز له أن ينتفع بالصّيد، فانتفى أثر العارية، فهي فاسدة.
وأمّا البحث في جهة الضمان، فالشيخ على أنه ليس ضمان التلف أو الإتلاف بل إنه ضامن للقيمة قبل التلف تشريعاً، لأن التكليف بالسبب الذي يترتّب عليه المسبب تكليف بالمسبب، فهو بمجرّد الإمساك مكلّف بالإرسال، ونتيجة الإرسال ضمان القيمة، فهو قبله مكلّف بأداء القيمة للمالك.
وفيه: إن هنا حكمين، أحدهما فعلي، وهو وجوب الإرسال بمجرّد الإمساك على القول به، وهذا حكم تكليفي، والآخر ـ وهو الحكم الوضعي، أي الضمان بالقيمة ـ تقديري، فإنه على تقدير الإرسال، إذن، لا يتصوّر هنا ضمانٌ غير ضمان الإتلاف.
والميرزا الاستاذ ذهب إلى ثبوت ضمان الإتلاف مع وجود الصّيد في يده وقبل حصول الإرسال، قال: إنّ وضع يده على الصيد موجب لسقوط ملكيّته، فهو بمجرّد أخذ الصيد من المالك مُتلف لملكه لأنه يضادّ الملكية، إذ لا فرق في ضمان الإتلاف بين الإعدام الخارجي وإتلاف الماليّة(1).
وكان رحمه اللّه قد استفاد هذه المضادّة من خروج الصّيد عن ملك من اصطاده قبل الإحرام ثم أحرم، إذ يدلّ ذلك على أنّ الإحرام وكون الصيد مملوكاً لا يجتمعان، سواءٌ كانت الملكيّة لنفس المحرم أو غيره.
وبالجملة، إن الامساك الذي يتعقّبه الإرسال الكاشف عن عدم الملكيّة ـ إذ لو كان ملكاً لما جاز إرسال مال الغير ـ إتلافٌ، وإنْ كان موجوداً.
ويرد عليه: إن المستفاد من النصوص هو تضادّ يد المحرم مع كونه مالكاً للصيد، لا المملوكيّة مطلقاً وإنْ كان لغيره.
فما ذكره طاب ثراه لا يمكن المساعدة عليه.
وفصّل السيّد(2) بين علم المعير بكون المستعير وجهله بذلك، فإنّه إذا كان عالماً كان الإتلاف مستنداً إليه، لأنه السبب في ذلك، لأنه سلّم الصيد مع علمه بكونه المستعير محرماً وأنه سيرسله، فالبحث عن ضمان المحرم وعدم ضمانه يختصّ بصورة جهل المعير بكونه محرماً.
وفيه: إنّ الإسناد إلى السبب يتوقّف على أنْ لا يكون المباشر أقوى منه، والمعير وإنْ كان سبباً للإتلاف إلاّ أن المستعير المحرم هو الأقوى، فهو مستند إليه دون المعير، فلا فرق حينئذ بين علم المعير وجهله.
ومن الأصحاب من قال بأنه ضمان بدل الحيلولة الواجب في كلّ مال امتنع ردّه إلى مالكه، لأن المورد من هذا القبيل، إذ الصيد بوجوب إرساله شرعاً ممتنع ردّه، والممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً، فيجب دفع بدل الحيلولة.
وفيه: إنّ مورد بدل الحيلولة هو ما إذا وقع مال الغير بيد الإنسان وامتنع ردّه إلى مالكه مع وجوده خارجاً، كما لو وقع في البحر مثلاً، فكان الانسان حائلاً بين الملك ومالكه، فبدل الحيلولة فرع على ثبوت الضّمان، والبحث فيما نحن فيه في أصل الضّمان.
وهل يجوز للمحرم أنْ يردّ الصيد إلى مالكه فيسقط الضمان؟
مقتضى كلام الميرزا الاستاذ قدّس سرّه أنه لا أثر للردّ، لأنّ الصّيد بمجرّد إمساك المحرم خرج عن ملكه واستقرّ ضمان الإتلاف على المحرم، فلو ردّه حصل للمالك صيدٌ جديد.
وبعبارة اخرى: المسقط للضمان ردّ الملك، وهذا ليس بردٍّ له.
والذي نحن عليه]1[: إنه لا يجوز للمحرم إمساك الصيد، أمّا خروجه عن ملك مالكه وعدم جواز ردّه إليه، فلا دليل عليه، بل هو باق على ملك مالكه، فإن ردّه المحرم إليه فلا ضمان عليه، والإرسال يجب إذا لم يمكن الردّ، فإذا لم يمكن ذلك وأرسله ضمن قيمته بضمان الإتلاف، وعلى هذا، فقاعدة ما لا يضمن غير منتقضة. واللّه العالم.
]1[ أقول: قد اشتمل كلامه على فروع:
إنه لا يجوز للمحرم إمساك الصّيد.
أي: سواء كان بيده على وجه الملكيّة، كما لو اصطاده مثلاً، أو كان لغيره فاستعاره منه.
أمّا عدم جواز الإمساك مطلقاً، فيدلّ عليه من النصوص(3):
ما عن ابن بكير قال: «سألت أحدهما عن رجل أصاب طيراً في الحلّ فاشتراه فأدخله الحرم فمات. فقال: إن كان حين أدخله الحرم خليٌّ سبيله فمات فلا شيء عليه، وإنْ كان أمسكه حتى مات عنده في الحرم فعليه الفداء».
وعن شهاب بن عبدربّه قال: «قلت لأبي عبداللّه، إني اتسحرّ بفراخ اُوتى بها من غير مكّة فتذبح في الحرم فأتسحّر بها. فقال: بئس السحور سحورك، أما علمت أن ما دخلت به الحرم حيّاً فقد حرم عليك ذبحه وإمساكه».
وأمّا أن المحرم يملك الصّيد، فبه نصوص كذلك(4)، منها:
عن الحلبي عن أبي عبداللّه قال: «سألته عن المحرم يضطرّ فيجد الميتة والصيد، أيّهما يأكل؟ قال: يأكل من الصيد، أما يحبّ أنْ يأكل من ماله؟ قلت: بلى. قال: إنما عليه الفداء، فليأكل وليفده».
وعن يونس بن يعقوب قال: «سألت أبا عبداللّه عن المضطرّ إلى الميتة وهو يجد الصيد. قال: يأكل الصيد. قلت: إنّ اللّه عزّ وجلّ قد أحلّ له الميتة إذا اضطرّ إليها ولم يحل له الصيد. قال: تأكل من مالك أحبّ إليك أو ميتة؟ قلت: من مالي. قال: هو مالك، لأن عليك فداءه. قلت: فإنْ لم يكن عندي مال؟ قال: تقضيه إذا رجعت إلى مالك».
وعن علي بن جعفر عن أخيه موسى… «قال: يأكل ويفديه، فإنما يأكل ماله».
وعن أبي أيوب عن أبي عبداللّه… «قال: يأكل ويفدي، فإنما يأكل من ماله».
وأمّا إن كان عاريةً، فهو باق على ملك مالكه وأخذ المحرم له غير مسقط لملكيّته له، لعدم الدليل على ذلك، لكنّ إمساكه غير جائز كما تقدّم ـ ولو فَعَل عصى وليس عليه ضمان ـ وعليه أنْ يردّه على مالكه إن أمكنه ذلك، ولا شيء عليه، وإلاّ وجب عليه إرساله، للنّصوص(5) في ذلك، ومنها:
عن معاوية بن عمّار قال: «سألت أبا عبداللّه عن طائر أهلي اُدخل الحرم حيّاً، فقال: لا يمس، لأن اللّه تعالى يقول: (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِنًا)».
وعن قال قال الحكم بن عتيبة: «سألت أبا جعفر… فقال: أما إنْ كان مستوياً خلّيت سبيله وإنْ كان غير ذلك أحسنت إليه حتّى إذا استوى ريشه خلّيت سبيله».
فإنْ أرسله، وجب عليه ضمان الإتلاف لقاعدة من أتلف.
وإنْ لم يرسله ولم يرده إلى المالك، فمات عنده ـ والمفروض فساد العارية ـ فلا ضمان عليه، لقاعدة ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده، بعد سقوط الاستدلال بقاعدة الاحترام ونحوه كما ذكر السيّد الجدّ.
(1) وأنظر: منية الطالب 1 / 125.
(2) حاشية المكاسب 1 / 460.
(3) وسائل الشيعة 13 / 30، الباب 12 من أبواب كفّارات الصيد.
(4) وسائل الشيعة، الباب 43 من أبواب كفارات الصيد.
(5) وسائل الشيعة 13 / 30، الباب 12 من أبواب كفّارات الصيد.