تحقيق المقام
وتحقيق المقام بعد رسم مقدمة فيها اُمور:
الأول: إنّ الإنشاء ـ كما ذكر من قبل ـ طورٌ من أطوار استعمال اللّفظ، وهو من الامور القصديّة.
والثاني: إنّ العقد، عبارة عن العهدين المؤكد والمشدّد أحدهما بالآخر.
والثالث: إنّ ما يصدر من الموجب مسندٌ إلى غيره، وهو إمّا كاف الخطاب إذ يقول: بعتك، أو اسم صريح مثل: بعت من زيد، أو ضمير كقوله: بعته. فعلى كلّ حال يحتاج إلى مسند إليه، والبيع وإنْ كان مبادلة مال بمال، لكنْ لابدّ من وجود مَن تتحقق المبادلة بين ماله ومال البائع، وأيضاً: تتوقف حليّة هذه المبادلة على القبول من الطّرف الآخر، فلا ينطبق قوله تعالى (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) إلاّ أنْ تكون المبادلة بين المالين بوجود الطّرف الآخر ورضاه بالمبادلة… إذنْ، لابدّ من الارتباط بين العهدين.
والرابع: قولنا «معاهدة» و«مبايعة» و«معاقدة» متقوّم بالاثنين كما ذكرنا، ولكنْ لا يلزم فيه الوحدة الزمانية، فالمفاعلة تصدق مع تعدّد الزمان، فلو كتب أحد الشخصين الآن وكتب الآخر في وقت لاحق، صدق عنوان «المكاتبة» على فعلهما حقيقة، وكذا المكالمة والمخاطبة والمناولة.
إن «المفاعلة» متقوّمة بالاثنين مع التطابق بينهما، بأنْ يكون عهدٌ وعهد، عقد وعقد، تكلّم وتكلّم، أمّا أن يكونا في زمان واحد، فلا.
والخامس: إنّ الأوصاف على أنحاء.
فمنها: ما لا يتمشى القصد من المتّصف بها، كالنائم والمغمى عليه والمجنون، فهؤلاء لا قصد لهم ولا يمكن المعاهدة الجديّة معهم.
ومنها: ما يتمشى معه القصد ويمكن المعاقدة الجديّة مع المتّصف بها، ولكن لا اعتبار لذلك شرعاً، كالسّفيه، والمفلّس، والصبيّ المراهق، وأمثالهم… .
وبعد الفراغ من المقدّمة نقول:
لو أوجب البائع البيع واجداً للشرائط المعتبرة عقلاً وشرعاً فمات، فقد خرج الشيء ملكه ولا أثر لقبول القابل، لعدم الموضوع، وكذا الكافر الحربي إذا استرقّ بعد الإيجاب وقبل القبول، فإنّ المال يكون لمولاه ولا موضوع للقبول حينئذ، ولو عرض عليه الإفلاس أو السّفه فكان محجوراً عليه، خرج المال عن ولايته ولا أثر للقبول بعد ذلك.
وبالجملة، فما لم يأت القبول لم يتحقّق العقد، فلو خرج المال عن ملك البائع بسبب من الأسباب كالموت والجنون والرّقية، أو خرج عن الطلقية، فلا أثر للقبول، نعم، لو أجاز الغرماء في بيع المفلّس فلا إشكال ظاهراً، وكذا في كلّ مورد قابل للحوق الإجازة.
وعلى ما ذكرنا، فإنه لا يبعد الصحة في صورة النوم، لأنّ حيثيّة العهدية قائمة بالنفس الناطقة، والإضافة الملكية موجودة، فيكون القبول اللاّحق مؤثّراً، بخلاف الإغماء، حيث تزول به العهديّة ويبطل العقد، وبخلاف الموت، حيث يخرج المال عن ملكه.
وأمّا من ناحية المشتري، فلو كان نائماً أو مغمى عليه أو مجنوناً في حين الإيجاب، فأفاق بعد تمامية الإيجاب أو استيقظ وقبل، لم يؤثّر، لكونه في ذلك الحين فاقداً للصّفات الدخيلة في جدّية العهد، أمّا لو كان صغيراً أو مفلّساً أو سفيهاً ونحو ذلك ممّا لا ينافي جدّية العهد، ثم كان في حين القبول واجداً للشرائط، فلا دليل على عدم التأثير للقبول.
فالتحقيق هو الفرق بين الصّفات المقوّمة للعهد الجدّي وغير المقوّمة له، فإنْ كان القابل فاقداً حين الإيجاب لشيء من القسم الأوّل بطل العقد، وإنْ كان فاقداً لشيء من القسم الثاني حينذاك وواجداً له حين القبول فالعقد صحيح[1].
[1] وحاصل الكلام هو التفصيل، أمّا في الموجب، فبين النوم من جهة والإغماء والموت من جهة اخرى، أمّا النوم فغير قادح لبقاء الالتزام والتعهّد معه عرفاً، وأمّا الموت، فلا يصحّ معه العقد، لأن الميّت لا التزام له والمال خارج عن ملكه، فلا يؤثر القبول، خلافاً للمحقق الإيرواني(1)، وأمّا الإغماء، فقد حكي الإجماع عن غير واحد على سقوط الشّرائط به.
وأمّا في القابل، فالتفصيل بين الشرائط العقليّة والشّرعية، كما ذكر السيد الجد رحمه اللّه.
وأمّا الوصيّة، فما ذكره الشيخ هو الصحيح، إذ الوصية إيقاع، إذ لو كان عقداً لما كان لقيام الوارث مقام الموصى له وجه، لأنه كان هو طرف المعاملة، فمن قيامه مقامه شرعاً نستكشف أنه إيقاع موجب لحدوث حق للموصى له، وكلّ حق للميت فإنه ينتقل إلى وارثه.
وأيضاً: يشهد بكونه إيقاعاً أنه لو ردّ جاز له القبول بعد ذلك، ولو كان عقداً فقد تقرّر أنّ القبول بعد الردّ غير مؤثّر، غير أنّا نضيف نكتةً هي: إنه إن كان القبول بعد الردّ في حال حياة الموصي، فما ذكره تام، سواء كانت الوصية عهديّة أو تمليكيّة، وأمّا إنْ كان بعد موت الموصي، فلا يمكنه الردّ إنْ كانت عهديةً بل هو ملزم بالعمل بالوصيّة، وإنْ كانت تمليكيّة فقبوله بعد الردّ بلا أثر، إجماعاً بقسميه كما في الجواهر(2)، فلابدّ من أن يكون مراد الشيخ ـ من جواز القبول بعد الردّ ـ أن يكون في حياة الموصي.
(1) حاشية المكاسب: 92.
(2) جواهر الكلام 28 / 254 و 259.