بحثٌ مع المحقق النائيني
وذهب الميرزا الاستاذ قدّس سرّه إلى عدم جواز تقدّم القبول على الإيجاب مطلقاً، وملخّص دليله هو:
إن الأمر كلّه في المعاملة بيد الموجب، ولا يكون من القابل إلاّ القبول والمطاوعة لما فعل الموجب، هذا من جهة، ومن جهة اُخرى، فإنّ «قبلت» مطاوعة بالصّراحة، و«اشتريت» مطاوعة تضمّناً، فكلاهما مطاوعةٌ، ولولاها لمّا تحقّق العقد، لأنّ قوام العقديّة هو الإيجاد من طرف والمطاوعة له من الطّرف الآخر والقبول له. وعلى ما ذكر، فالقبول بالنسبة إلى الإيجاب نظير الإنكسار بالنسبة إلى الكسر، فكما لا يتقدّم الانكسار على الكسر، كذلك لا يتقدّم القبول على الإيجاب، لأنه قبولٌ للتبديل الحاصل من الموجب، والقبول في حال عدم التبديل غير معقول، لأنه كالانكسار بلا كسر.
إذن، لا يجوز تقدّم القبول على الإيجاب، سواء كان بلفظ «قبلت» أو بلفظ «اشتريت» ونحوهما.
أقول:
لا يمكن المساعدة على ما أفاده بوجه، لأنّ الواقع من طرف البائع هو تبديل ماله بمال المشتري إنشاءً، فإذا تحقق تحقّق التبدل إنشاءً وفي عالم الاعتبار كذلك، وأمّا المشتري، فإنه إنما يقبل ما كان ويرضى به، وليس في طرفه انفعال أصلاً، حتّى يشبّه القبول بالانكسار، فيقال بعدم معقولية تقدّمه على الإيجاب.
وأمّا أن قبول الشيء يتوقف على وجود ذلك الشيء لا محالة، فهذا حق، إذ لا يصلح المعدوم بقول مطلق لأنْ يتعلّق به القبول، ولكنّ متعلَّق الرّضا هو التبديل أو التبادل بين المالين، فلو تقدَّم الرضا وجاء التبديل والعذر والتوبة مثلاً، حيث أن المقصود من قبول العذر هو الرضا بمضمون كلامه في مقام الاعتذار، وإذا كان هذا معنى القبول، فلا فرق بين أنْ يكون الرضا بشيء موجود بالفعل أو بأمر سيوجد في وقت متأخّر.
ولو سلَّمنا أن «القبول» مفهوم لا يتعلَّق إلاّ بما هو موجود بالفعل، فإنّ «رضيت» ليس كذلك، فإنه يتعلّق بما هو موجود بالفعل وبما هو متقدم وبما هو متأخّر، فلماذا ينفي جواز تقدَّم القبول مطلقاً؟
بقي من أدلّة الشيخ:
الإجماع على عدم جواز تقدّم «قبلت» ونحوه.
وفيه: إنه ليس من الإجماع الحجة، ويحتمل قويّاً استناده إلى الوجوه الاخرى.
وأمّا أنّ التقدّم خلاف المتعارف.
فإن كان نظره إلى أنّ العمومات والمطلقات إمضاء للعقود المتعارفة، فيمكن الموافقة عليه، لتأخّر القبول عن الإيجاب في العقود المتعارفة، ولكنْ لا دليل على دعوى كونها إمضاءً للعقود المتداولة فقط، بل هي عمومات وإطلاقات شاملة لجميع العقود إلاّ ما خرج بالدليل.
وإنْ كان نظره إلى مقتضى المطاوعة، فقد عرفت الجواب عنه.
كما تقدّم الكلام على قضيّة الفرعيّة بالتفصيل.
كما ظهر أنْ لا أساس للقول بأنّ القابل ناقل للمال حالاًّ، لِما عرفت من أنه لا يكون من القابل نقلٌ لا بالمطابقة ولا بالتضمّن ولا بالالتزام، بل الحاصل منه هو الرضا فقط.
ولو تنزّلنا وقلنا بأنه ناقلٌ بالالتزام، فالجواب هو: إنّ المدلول الالتزامي تابعٌ للدالّ على الالتزام، وهذا الالتزام ناشئ من رضاه بما فعل البائع، فهو ليس بناقل بالفعل بل هو ناقلٌ من حين الإيجاب، لو كان ناقلاً.
مضافاً إلى ما تقدّم من أنَّ مقام الإنشاء غير مقام فعليّة الأثر، فإذا تقدّم القبول كان تماميّة السبب بمجئ الإيجاب، فيصير الأثر فعليّاً.
Menu