المناقشات في دلالتها
وفيه:
إنّ الأخذ والاستيلاء ليس مماثلاً للإتلاف، إلاّ أنْ يدّعى اندراجهما تحت جامع انتزاعي هو الفصل بين المال ومالكه، وفيه ما لا يخفى. هذا أولاً.
وثانياً: الوارد في الآية هو «المثل» بقول «مطلق» وهو ظاهر في المماثلة من جميع الجهات، والمثليّة في القيميّات من وجه، فكيف يتم الاستدلال؟
وثالثاً: إنّ الآية المباركة متفرعة بـ«الفاء» على الآية السابقة عليها، قال تعالى: (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ…) وهي ظاهرة في مقابلة الاعتداء بالاعتداء، فهو قتال مماثل للقتال من حيث الزمان والمكان، أي: فكما أنّهم لم يحافظوا على المحرمات الزمانية والمكانية، كذلك أنتم يجوز لكم ترك المحافظة عليها.
وبعبارة اخرى: هذا التفريع يشهد بكون «ما» مصدريّة أي: فاعتدوا عليه بمثل اعتداءه، وليست موصولة على أنْ يكون الرابط محذوفاً، أي: بمثل الذي اعتدى به عليكم، وإذا كانت مصدرية فما معنى «الباء» في «بمثل»؟…، ويشهد بذلك ما سبق عليها من قوله تعالى (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ…) وأيضاً الخبر:
«عن معاوية بن عمار قال سألت أبا عبداللّه عليه السلام رجل قتل رجلاً في الحلّ ثم دخل الحرم… قلت: فما تقول في رجل…».
ورابعاً: لو تنزّلنا، فلا أقل من تردّدها بين المصدرية والموصولة.
وخامساً: وعلى فرض كونها موصولة، فإنها تعمّ العمل، فيكون المعنى: الاعتداء بمثل الذي صدر من المشركين من الاعتداء، فلا دلالة على الضّمان.
قال الشيخ:
وربما يناقش في الآية… وفيه نظر.
أقول:
قال السيّد:
قال في الحاشية: لأن ظاهرها اعتبار المماثلة في الاعتداء والمعتدى به. قلت: هو كذلك(1).
وهو يؤيّد ما ذكرناه أخيراً.
وتلخّص سقوط الاستدلال بالآية للمقام.
قال الشيخ:
نعم، الانصاف عدم وفاء الآية ـ كالدليل السابق عليها ـ بالقول المشهور… فتبيّن أن النسبة بين مذهب المشهور ومقتضى العرف والآية عموم من وجه… .
أقول:
ذكر في مادّة الافتراق من طرف المشهور: أنه قد يضمّن بالمثل بمقتضى الدليلين، ولا يضمّن به عند المشهور كما في المثالين:
الأوّل: لو أتلف ذراعاً من كرباس طوله عشرون ذراعاً متساوية من جميع الجهات. فإنّ مقتضى العرف والآية إلزام الضّامن بتحصيل ذراع آخر من ذلك ولو بأضعاف قيمته ودفعه إلى مالك الذراع المتلف، مع أنّ القائل بقيميّة الثوب لا يقول به.
وربما يشكل عليه، بأنّه إذا كان مقتضى الدليلين تحصيل المماثل من جميع الجهات، فإنّ تحصيله بأضعاف قيمته تحصيلٌ لما يزيد على المثل.
ولكنّه غفلة عن المقصود، لأنّ حيثيّة الضمان غير حيثيّة تحصيل المثل، فالذي استقرّ على الذمّة وحصل الضمان به هو مقدار ماليّة التّالف، وأمّا دفع أضعاف القيمة فلتحصيل المثل الواجب دفعه، وسيأتي توضيح هذا المطلب فيما بعد.
والثاني: لو أتلف عليه عبداً وله في ذمّة المالك بسبب القرض أو السلم بعد موصوف بصفات التالف، فإنهم لا يحكمون بالتهاتر المعنوي كما يشهد ملاحظ كلماتهم في بيع عبد من عبدين.
نعم، ذهب جماعة ـ منهم الشهيدان في الدروس والمسالك إلى جواز ردّ العين المقترضة إذا كانت قيميّة، لكنْ لعلّه من جهة صدق أداء القرض بأداء العين، لا من جهة ضمان القيمي بالمثل… .
أقول:
هكذا قال، وليته لم يقله، لأنّ أداء العين المقترضة إما هو من جهة جواز عقد القرض من طرف المقترض ـ وإنْ كان لازماً من طرف المقرض ـ فإذا أدّاها كان فسخاً للعقد عملاً، أو لاشتغال الذمّة في خصوص قرض القيميّ بالأعمّ من طبيعي المال المقترض والقيمة، وحينئذ، يمكنه ردّ العين لكونها من مصاديق الكلّي الطبيعي، أمّا لو كان اشتغال الذمّة بالقيمة فلا يصحّ قوله: «لعلّه من جهة صدق…» لأنّ ردّ العين ليس بأداء للقيمة، لكونهما متباينين، فلا يتحقّق أداء القرض.
فالدليل لما ذهب إليه الجماعة هو أحد الوجهين اللذين ذكرناهما، لا ما ذكره الشيخ رحمه اللّه.
هذا إذا كان للتالف مماثل.
قال الشيخ:
وأمّا مع عدم وجود المثل للقيمي التالف، فمقتضى الدليلين عدم سقوط المثل من الذمّة بالتعذّر… ولا يقولون به.
أي: يقولون بأنّ عليه أداء قيمة يوم التلف.
هذا كلّه في بيان مادّة الافتراق في القيميّات.
وأمّا مادّة الافتراق في المثليّات. قال الشيخ:
وأيضاً:، فلو فرض نقصان المثل عن التالف من حيث القيمة نقصاناً فاحشاً، فمقتضى ذلك عدم جواز إلزام المالك بالمثل… مع أنّ المشهور كما يظهر من بعض إلزامه به وإنْ قوّى خلافه بعض، بل ربما احتمل جواز دفع المثل ولو سقط المثل عن القيمة بالكليّة، وإنْ كان الحق خلافه.
أقول:
إنّ مقتضى الدليلين اعتبار المماثلة في الماهيّة والماليّة، وما نقصت قيمته ليس مماثلاً للتالف، فلا يخرج الضامن عن العهدة بأدائه، لكنّ المشهور لا يقولون باعتبار المماثلة من جميع الجهات، فيكفي للخروج عن الضمان دفع ما نقص قيمته، بل ربما احتمل بعضهم دفع المثل ولو سقط عن القيمة بالكليّة.
وبالجملة، إن مقتضى الدليلين هو المثل بقول مطلق، لكنّ المشهور القائلين بأنّ المثلي يضمن بمثله يريدون المثليّة في الجملة، بل بعضهم يحتمل كفاية المثل وإنْ سقط عن القيمة.
وأشكل السيّد(2) قدس سرّه بما ملخّصه:
إن المثل في الآية المباركة ما يكون مماثلاً في الصّورة والماهيّة، وأمّا جهة الماليّة فليست دخيلةً في المثليّة، ولذا لو كانت العين المأخوذة بالعقد الفاسد موجودةً وجب عليه ردّها وإنْ نقصت ماليّتها.
وهذا منه عجيبٌ جدّاً!!
لأنّ الإعتداء الواقع لم يكن بالنسبة إلى العين بوحدها بل بالنسبة إلى ماليّتها أيضاً، فالمعتدي ضامنٌ لكليهما، وأمّا في المأخوذ بالعقد الفاسد ـ مثلاً ـ مع بقاء عينه، فإنّ العين تردّ، لأنه ردٌّ للملك سواء نقصت قيمته أو سقطت. فكم فرق بين مفاد الآية المباركة والمثال الذي ذكره؟
بل يمكن أنْ يقال في صورة بقاء العين ـ إذا كان نقصان قيمتها على أثر إمساكه العدواني ـ بالضمان كذلك، لما تقدّم أنّ إتلاف الماليّة موجبٌ للضّمان.
فظهر سقوط الإشكال بوجهين.
قال الشيخ:
ثم إنّ الإجماع على ضمان القيمي بالقيمة على تقدير تحقّقه، لا يجدي بالنسبة إلى ما لم يجمعوا على كونه قيميّاً، ففي موارد الشك يجب الرجوع إلى المثل بمقتضى الدليل السّابق وعموم الآية، بناءً على ما هو الحق المحقّق من أن العام المخصّص بالمجمل مفهوماً المردّد بين الأقل والأكثر لا يخرج عن الحجيّة بالنسبة إلى موارد الشك.
أقول:
لقد كان الأولى أنْ يقول: بأنه لا يوجد في المقام مفهومٌ مخصّص لعموم العام، بل هناك موارد قام الإجماع فيها على القيمية كالحيوان فيكون الإجماع مخصّصاً لعموم الآية المعتبرة للمثليّة، وأمّا فيما عداها فلا مخصّص، والمحكّم هو العموم.
وبعبارة اخرى: لا يوجد في غير موارد الإجماع مخصّص، لا أنه موجود وهو مردّد بين الأقلّ والأكثر.
(1) حاشية المكاسب 1 / 473.
(2) حاشية المكاسب 1 / 474.