المراد بالضّمان
قال الشيخ:
والمراد بالضمان في الجملتين هو درك المضمون عليه، بمعنى كون خسارته ودركه في ماله الأصلي، فإذا تلف وقع نقصان فيه، لوجوب تداركه منه.
أقول:
إن كان المراد من هذه الكليّة العموم الأفرادي، أيْ كلّ فرد من أفراد العقود، يرد عليه الإشكال بأن الفرد المتحقق خارجاً من البيع لا ينقسم إلى القسمين، إلاّ أن يكون بنحو القضيّة الشرطية، بأنْ يقال عن العقد الواقع فاسداً: إنه لو كان صحيحاً لأوجب الضمان، فهذا يوجب الضمان.
فالمراد هو العموم النوعي، أو الصّنفي.
والمراد من الضّمان هو ما ذكره الشيخ مع تعديل للعبارة، فهو درك المضمون عليه بحيث يكون خسارته ودركه في ماله الأصلي، إذ ليس معنى الضمان كون خسارته… لأنّه:
أوّلاً: المقصود من القاعدة: كلّ ما يضمن بالفعل… فلو كان معنى الضمان هو الخسارة، كان على تقدير التلف.
وثانياً: إنّ مادّة «ضمن» لغةً بمعنى تكفّل وتعهّد(1).
وفي الخبر: «ضمنت لمن اقتصد أنْ لا يفتقر»(2).
وفي آخر: «الإمام ضامن للقراءة المأموم»(3).
فالمعنى هو الكفالة والتعهّد، وليس الخسارة كما هو ظاهر كلام الشيخ.
فيكون المال التالف ثابتاً اعتباراً في ذمّة الضّامن.
وعلى هذا، فإن كانت المعاملة صحيحة، فالطرف متعهّد وملتزم بدفع الثمن والشارع قد أمضى العوض المسمّى، أمّا لو كانت فاسدةً بمعنى أنّ الشارع لم يمض بدليّة المسمى عوضاً عن ماليّة الشيء المبيع، فكان على المشتري دفع البدل مثلاً أو قيمةً إن كان المبيع تالفاً، وإن كان باقياً وجب عليه إرجاعه بعينه، وقد يجب عليه دفع أقلّ الأمرين من المسمّى والبدل، كما في الهبة المشروطة بالعوض، فلو تلفت العين الموهوبة المشروطة بالعوض، المقبوضة بالعقد الصحيح، ثبت الضّمان، قال في المسالك(4): عليه دفع أقلّ الأمرين، واستدلّ لذلك: بأنّ المتّهب كان مخيّراً بين تملّك العين الموهوبة ودفع العوض، وبين إمساك العوض وإرجاع العين، والآن حيث أن العين تالفة وهو لا يدفع العوض، فالتخيير باق فإمّا يدفع العوض وإمّا يدفع بدل العين، فالمتيقّن من ضمان المتّهب هو أقلّ الأمرين.
وبعبارة اخرى: إنْ سلّم المتّهب العوض في الهبة المعوّضة، كانت العين الموهوبة ملكاً له، وإلاّ كان للواهب الرجوع في العين، ولو تلفت بيد المتّهب والهبة صحيحة، فالبدل المسمّى أو الواقعي مخيّراً، فله دفع أقلّ الأمرين.
وقال جماعة ـ واختاره صاحب العروة في فرض المسألة في الهبة(5) ـ بدفع العوض المسمّى، لأنه كان مخيراً بين ردّ العين أو إمساكها ودفع العوض، ومقتضى القاعدة العامة من أنه إذا تعذّر أحد العدلين تعيّن الآخر، هو وجوب دفع العوض المسمّى إذا تعذّر ردّ العين.
لكن فيه: إنّ القاعدة المذكورة إنما تجري في التخييرات الشرعيّة، وليس التخيير في المقام شرعيّاً.
ومقتضى الصّناعة العلميّة ما ذهب إليه العلاّمة رحمه اللّه(6) من أنه ليس على المتّهب دفع شيء، لأنّه لم يكن ملزماً بدفع العوض، فإذا لم يدفعه كان للواهب الرجوع في هبته، فلو تلفت العين تلفاً قهريّاً انتفى موضوع الرجوع ولا شيء على المتّهب.
لكنّ الظاهر ـ بناءً على تمامية قاعدة اليد ـ ثبوت أقلّ الأمرين من البدل الواقعي وقيمة المسمّى لا نفسه، لأنّ الضمان بالمسمّى حكم العقد الصحيح، أمّا أن الواجب أقل الأمرين، فلأن الواهب قد أسقط بهبته الزائدعن البدل الواقعي، فإنْ كان البدل الواقعي أقل من المسمّى فهو، وإنْ كان المسمّى هو الأقلّ، فالمفروض إسقاط الواهب الزائد.
وعلى الجملة، فالضمان عند الشيخ هو الخسارة، قال:
ثم تداركه من ماله تارةً: يكون بأداء عوضه الجعلي… وأخرى: بأداء عوضه الواقعي… وثالثة: بأداء أقل الأمرين… فالمراد بالضمان بقول مطلق هو لزوم تداركه بعوضه الواقعي.
أي: إنّ الاختلاف بين الفقهاء في الغرامة أنها العوض المسمّى أو الواقعي أو أقل الأمرين، لا يضرّ بكون معنى الضمان هو الغرامة والخسارة على تقدير التلف.
أمّا عندنا، فالضمان هو التكفّل والتعهّد، والاختلاف في الآثار والأحكام لا يوجب الاختلاف في حقيقة معنى الضّمان.
قال الشيخ:
وأمّا مجرّد كون تلفه في ملكه بحيث يتلف مملوكاً له كما يتوهّم، فليس هذا معنى للضمان أصلاً، فلا يقال إن الإنسان ضامن لأمواله.
وهذا ردّ على ما قيل من أنّ الضمان في العقد الصحيح هو بالمسمّى، فليكنْ معناه في الفاسد كذلك، حتى يكون في كلتا الجملتين بمعنىً واحد.
وبطلانه على قولنا في معنى الضّمان أوضح، فهو بمعنى التكفّل في كلتيهما، غير أنه في العقد الصحيح بالمسمّى وفي العقد الفاسد بالعوض الواقعي وهو المثل أو القيمة، واختلاف الأثر لا يوجب اختلاف المعنى الحقيقي.
قال الشيخ:
فاحتمال أنْ يكون المراد بالضمان في قولهم يضمن بفاسده هو وجوب أداء العوض المسمّى، نظير الضمان في العقد الصحيح ضعيفٌ في الغاية.
لا لأن ضمانه بالمسمّى يخرجه عن فرض الفساد… نظير المعاطاة على القول بالإباحة.
بل لأجل ما عرفت من معنى الضّمان… فافهم.
أقول:
قد ذكر لضعف الاحتمال المذكور ـ وهو أن يكون المراد من «الضمان» في العقد الفاسد هو أداء العوض المسمّى ـ وجهين:
الأوّل: إن ضمانه بالمسمّى يخرج العقد عن فرض الفساد.
والثاني: إن معنى الضمان هو الخسارة والغرامة.
والوجه الثاني هو الصحيح عنده. وأمّا الأوّل، فقد أجاب عنه بأنه: «يكفي في تحقق فرض الفساد…» ثم جعل المقام «نظير المعاطاة على القول بالإباحة».
وهذا الكلام مخدوش جدّاً.
أمّا قوله: «لأن ضمانه بالمسمّى يخرجه عن فرض الفساد» فهو خلف، لأنّ العوض المسمّى إنما يفرض إذا كان العقد صحيحاً، وتعيّن ماليّة الشيء في العوض المسمّى لا يكون إلاّ بإمضاء الشارع الموقوف على صحّة العقد، فهو ملازم لصحّة العقد، وليس الأمر بيد المتعاملين حتى يتعيّن الآخر للعوضيّة.
وأمّا قوله: «نظير المعاطاة على القول بالإباحة» ففيه: إنا قد ذكرنا في المعاطاة: أن المتعاطيين يقصدان التمليك لكن إمضاء الشارع مشروط بالتصرّف والتلف، وبدونه فلا ملكيّة شرعاً، فتعيّن أحد العوضين بعد التلف هو سبب صحّة المعاطاة شرعاً، لا مع فرض فسادها.
وأمّا «الضمان» فقد تقدّم أنه لغةً وعرفاً كفالة المال، بأنْ يتعهّد تسليمه، نظير كفالة النفس إذْ يتعهّد إحضار الشخص، فيكون المال في ضمن عهدة الضامن اعتباراً، وله آثار، فإن كان موجوداً بعينه سلّمه، وإن كان تالفاً، وجب عليه دفع البدل المسمّى أو الواقعي أو أقلّ الأمرين على ما تقدّم.
(1) الصحاح 6 / 2155، لسان العرب 13 / 257.
(2) وسائل الشيعة 17 / 64، باب استحباب الاقتصاد وتقدير المعيشة، الرّقم: 2.
(3) وسائل الشيعة 8 / 353، باب وجوب اتيان المأموم بجميع واجبات الصّلاة…، الرّقم: 1 و 3.
(4) مسالك الأفهام 6 / 63.
(5) العروة الوثقى 2 / 181.
(6) تحرير الأحكام 3 / 265.