الكلام في تقدّم القبول بلفظ الأمر
قال الشيخ:
وممّا ذكرنا يظهر الوجه في المنع عن تقدّم القبول بلفظ الأمر كما لو قال: بعني هذا بدرهم فقال: بعتك… وأمّا ما يظهر من المبسوط… وأمّا فحوى جوازه في النكاح… .
أقول:
خلاصة كلامه: أنّ طلب الشيء أمرٌ والرضا به أمرٌ آخر، فمجرّد الطلب لا يدلّ على القبول والرضا، فلا يجوز القبول بصيغة الأمر مطلقاً، أما بعد الإيجاب، فلعدم الموضوع بل هو تحصيل الحاصل، وأمّا قبله، فللمحذور المذكور. فلا قابلية لصيغة الأمر للقبول في العقد.
وقد وافقه الميرزا الاستاذ قدّس سرّه على المنع، لأنّ القبول هو المطاوعة، والأمر ليس كذلك كما واضح، فلا يصلح لأن يقع قبولاً.
فأمّا ما أشار إليه الشيخ هنا أيضاً من ضرورة كون القبول نقلاً في الحال، وصيغة الأمر لا تدلّ على ذلك، فقد عرفت أنْ لا دليل على اعتبار زمان الحال، ولا دلالة للإيجاب ولا للقبول عليه، فلا وجه للقول بأنّ القبول عبارة عن الرضا بالنقل حالاًّ.
ثم إن هنا نقاطاً:
(الاولى) إن جميع الصّفات النفسانيّة التعلّقيّة من التمنّي والترجّي والحبّ والعلم وأمثالها، يستحيل وجودها من دون المتعلّق، فلولا وجود الشيء لما تحقق رجاؤه والعلم به وتمنّيه وهكذا… والمتعلّق لا يعقل أنْ يكون في الخارج وإنّما هو صورة ما في الخارج، لما تقرر في محلّه من أن الخارج لا ينقلب ذهناً والذهن لا ينقلب خارجاً.
وعليه، فالذي يتعلّق به الرضا ليس هو الموجود في الخارج، وإنّما صورة الشيء المطابقة لما في الخارج، وهل يعتبر أنْ يكون ما في الخارج موجوداً بالفعل حتى يتعلّق الرضا بصورته؟ كلاّ، لا يعتبر، وإلاّ لاستحال تمنّي وترجّي الشيء المتأخر والشوق إليه وهكذا… .
(الثّانية) إنّ المشتري لمّا يقبل فعل البائع، وهو تبديل الشيء بالشيء، هل يقبل التبديل ـ أي المعنى المصدري ـ أو التبدّل، أي المعنى الاسم المصدري؟ فإذا أمر بالبيع قائلاً «بعني هذا بهذا»، هل يكون راغباً في التبديل من البائع أو في تبدّل ماله بمال البائع؟
الظاهر عدم الفرق، لأنّ التبديل عين التبدّل، إنما يختلف الحال في الغرض، فتارةً: يتعلّق بالحيثيّة الصدوريّة كما لو قال الأب لولده: صلّ، فإنّ غرضه متعلّق بإيجاد الولد للصلاة وإنْ كان مشتاقاً إلى وجودها أيضاً، لاتّحاد الوجود مع الايجاد، وتارةً: يتعلّق بأصل الفعل ولا نظر له إلى الحيثية الصدورية، كما لو كان عطشاناً وقال لغيره: اسقني، فإنّ غرضه متعلّق بشرب الماء ورفع عطشه، ولا دخل لصدور السّقاية من خصوص الشخص في غرضه، بل تصدّيه للفعل مقدّمة لحصول الغرض.
وعليه، فلو أمر بالبيع في مقام القبول، لم يكن فرق بين أن يكون راضياً بالتبديل أو بالتبدّل، نعم، ربما يفترق الحال من حيث الغرض، فقد يتعلّق بالحيثيّة الصّدورية أي التبديل من الشخص، إلاّ أنها لا تنفكُّ عن المعنى الاسم المصدري وهو التبدّل كما تقدّم… وكيف كان، فإنه يدلّ على الرّضا بالمبادلة بين الثمن والمثمن.
(الثالثة) قدّمنا أن العقد هو العهد المرتبط بالعهد، وأنّ رضا المشتري بالمبادلة بين المالين من طرف البائع هو الرّابط بين العهدين، ولا ريب في عدم كفاية الرضا الباطني في تحقق العقد اللفظي، فلابدّ من إظهاره لفظاً.
وهل يعتبر أنْ يكون هذا الرضا المبرز باللّفظ متأخراً عن الإيجاب؟
وهل يعتبر أنْ يكون بلفظ خاص؟
وهل يعتبر أنْ تكون دلالته مطابقيّة؟
الحق: أنه لا دليل على اعتبار شيء من ذلك.
فيجوز أنْ يكون القبول بصيغة الأمر المتقدّم، وتشمله العمومات والإطلاقات]1[، والإجماع المدّعى ليس بحجّة، وقضية المطاوعة قد تقدم الكلام عليها.
]1[ أقول: وكذا الأخبار في باب النكاح، لدلالتها على ما نحن فيه بالفحوى. وأمّا جواب الشيخ عن الاستدلال بها بقوله: «وأمّا فحوى جوازه في النكاح، ففيها ـ بعد الإغماض عن حكم الأصل بناءً على منع دلالة رواية سهل على كون لفظ الأمر هو القبول، لاحتمال تحقق القبول بعد إيجاب النبي صلّى اللّه عليه وآله، ويؤيّده أنه لولاه يلزم الفصل الطويل بين الإيجاب والقبول ـ منع الفحوى، وقصور رواية أبان من حيث اشتمالها على كفاية قول المرأة: نعم، في الإيجاب»، فالإنصاف عدم إمكان المساعدة عليه، لأنّ احتمال تحقّق القبول بعد إيجاب النبي، مندفع بالأصل، وتأييده بلزوم الفصل، مندفع بأنّ هذا القدر من الفصل غير قادح، كما أنّ الإشكال بعدم كفاية قول «نعم» في الإيجاب أوّل الكلام. وعلى الجملة، فإنّ ظواهر النصوص المعتبرة محكّمة، نعم، الاحتياط بلحاظ مخالفة المشهور في محلّه.
Menu