الكلام في تقدم القبول بلفظ اشتريت و نحوه

الكلام في تقدم القبول بلفظ اشتريت و نحوه
قال الشيخ:
وإنْ كان التقديم بلفظ اشتريت أو ابتعت أو تملّكت أو ملكت هذا بكذا، فالأقوى جوازه… .
أقول:
قد منع الشيخ من تقدّم قبلت، لأنّ القبول يتضمّن النقل بالفعل، فلو تقدّم لم يتضمّنه فلا يجوز، ومنع إذا كان بصيغة الأمر، لأنه مجرد طلب وليس بنقل.
أمّا في اشتريت ونحوه فقال: الأقوى جواز تقدّمها، لأنه لمّا يقول اشتريت هذا الكتاب بدرهم، ينشأ تملّك مال الآخر وينقل ماله إلى صاحبه بالفعل عوضاً عن ماله الذي أدخله في ملكه، فلما قال البائع «بعت»، فقد أخرج كتابه عن ملكه وأدخل الدرهم في ملكه، فإنشاؤهما في الإدخال والإخراج متعاكسان، فذاك يدخل الكتاب بالصراحة في ملكه ويخرج الدرهم عن ملكه بالالتزام، والبائع يخرج بالصراحة ويدخل بالالتزام.
فهنا إنشاءان، والإنشاء المتقدّم انشاءٌ للمعاوضة نظير إنشاء البائع، فكما أن البائع ينشأ ملكيّة الكتاب معوّضاً بالدّرهم، كذلك المشتري، غير أنه إنْ كان متأخّراً فهو قبولٌ، لأن عنوان «المطاوعة» يتحقق مع التأخّر، لأنّ «الاشتراء» افتعال، وأمّا مع التقدّم فلا، ولذا قال:
فكلّ من رضيت واشتريت بالنسبة إلى إفادة نقل المال ومطاوعة البيع عند التقدم والتأخر متعاكسان.
ثم تعرّض لسؤال مقدَّر هو: إنه إذا كان «اشتريت» في صورة تأخره قبولاً، فلِمَ لا يكون قول البائع متأخراً «بعت الكتاب بدرهم» قبولاً للاشتراء المتقدّم؟
فأجاب: بأنّ القبول إنما يكون ممّن يخرج العوض عن ملكه، والكتاب معوَّض، فما قاله إيجاب لا قبول.
فيتوجّه عليه حينئذ الاشكال الذي طرحه بقوله:
فإنْ قلت: إنّ الإجماع على اعتبار القبول في العقد يوجب تأخير قوله: اشتريت، حتّى يقع قبولاً، لأن إنشاء مالكيّته لمال الغير إذا وقع عقيب تمليك الغير له، يتحقّق فيه معنى الانتقال وقبول الأثر، فيكون اشتريت متأخراً التزاماً بالأثر عقيب إنشاء التأثير من البائع، بخلاف ما لو تقدم… .
أي: إنه لمّا لم يكن «اشتريت» المتقدم مطاوعة، وإنّما يكون مطاوعةً إذا تأخّر، وكان قول الفقهاء بأن «اشتريت» قبولٌ محمولاً على غلبة تأخّره، بل عن بعضهم أنه ليس قبولاً حقيقةً وإنما هو بدل، فهو في صورة التقدّم لا يعتبر قبولاً، فهو إيجاب، ولمّا كان إنشاء البائع إيجاباً وليس بقبول كذلك، كان المتحقق إيجابان، وهذا خلاف الإجماع القائم على اعتبار القبول في كلّ عقد من العقود، وعلى هذا، فيجب تأثير «اشتريت» حتى يقع قبولاً ليتحقق العقد.
وبعبارة موجزة:
كلّ عقد لابدّ فيه من القبول، واشتريت متأخّراً قبول دون كونه متقدماً، فلابدّ من أنْ يكون متأخّراً.
ووجه قول الشيخ بأنّ اشتريت المتأخّر قبول وإذا تقدّم فليس بقبول، مع أن مفاد هيئة الافتعال هو القبول، هو: إن باب الافتعال قبول للمبدء، لكنّه ليس دائماً قبولاً للمبدء الذي يوجده الغير، فقد يوجده الشخص نفسه كما في «اختفى» ونحوه، وقد بيّنا هذا سابقاً بالتفصيل، فقبول المبدء غير قبول المعاوضة.
فأجاب عن الإشكال بقوله:
قلت: المسلّم من الإجماع هو اعتبار القبول من المشتري بالمعنى الشامل للرضا بالإيجاب، وأمّا وجوب تحقق مفهوم القبول المتضمّن للمطاوعة وقبول الأمر، فلا.
فالقدر المتيقن من الإجماع هو أنْ يكون المشتري راضياً بفعل البائع، أي الرضا الناقل للمال. وأمّا اعتبار تلقّي الشيء وإنشاء الانفعال منه، فلا، وهذا قوله:
فقد تبيّن… ولا يعتبر إنشاء انفعال نقل البائع.
كان ما ذكرنا شرحاً لكلمات الشيخ.
وبعد ذلك نقول:
أمّا قوله: بأنّ اشتريت المتقدّم وبعت المتأخّر إنشاءان، ولا فرق بينهما إلاّ أنهما متعاكسان من حيث الصراحة والالتزام، ففيه:
إنّه إن كان المشتري بقوله اشتريت يعني: «تملّكت كتابك بعوض مالي» فهو وقول البائع: «بعتك الكتاب بعوض» متباينان، لأن ذاك «تملك» وهذا «تمليك»، فالقول بتساويهما وأنّ الفرق في الصراحة والالتزام فقط، غير صحيح.
وعلى هذا الفرض، فإنّ هذا الإنشاء صحيح حتّى بناءً على اعتبار المطاوعة، إذ لا محذور من إنشاء المطاوعة لفعل قبل وقوع الفعل، وإنما يعتبر التأخّر في المطاوعة الخارجيّة.
وبعبارة اخرى:
إن قبول الإيجاب مطاوعة، والمطاوعة قبول الأمر، لكنّ الذي يرد عليه الأثر ويقبله في العقد هو المتاع الذي أدخله الموجب في ملكه، فكان المتأثر هو المتاع والأثر دخوله في ملك الموجب الذي هو المؤثّر، فالمطاوعة كانت للمتاع، وإنما سمّي ذلك بالمطاوعة، لأنّ قبول الأثر تكويناً هو المطاوعة، وإنما أسند القبول إلى المشتري وسمّي مطاوعةً، لأنه قد وافق على ما فعله الموجب في ملكه، ورضي بمالكيته التي حصلت بسببه، لأنّ المتاع مضاف إليه، فلما وقع الأثر على المتاع ورضي به مالكه أصبح هو المنفعل والمطاوع له.
ولقد بيّنا سابقاً: أنه لا تعتبر المطاوعة في المعاملة، وأنّ القبول فيها ليس بهذا المعنى، بل هو الرضا، نظير قبول التوبة والعذر والضيف والوعد ونحو ذلك.
لكنّ الشّيخ لمّا كان يرى أن القبول هو المطاوعة، وأنّ «اشتريت» ونحوه ليس مطاوعةً، وأنّ قول المشتري ذلك مقدّماً نظير قول البائع «بعت» على السّواء من حيث كونهما تمليكاً، فيرد عليه:
أوّلاً: إن كان «ابتعت» بمعنى قبول الملكيّة الحاصلة من الغير، كان مرادفاً لتملّكت، ويرد عليه ما ورد عليه، وإنْ كان بمعنى قبول المبدء، بلحاظ إيجاده هو له ـ كما في اختفيت واكتسبت مثلاً ـ كان إيجاباً كإيجاب البائع، والمتحقّق إيجابان لا إيجابٌ وقبول.
وثانياً: إنّ «تملّكت» قبولٌ ومطاوعة لِما فعله الموجب مطاوعة انشائيّة ـ والمفروض كون الصيغ الاخرى المذكورة مرادفة له ـ فقوله: بأنّها في حال التقدّم ليست بقبول، غير صحيح.
وبعد الفراغ عن النظر في كلام الشيخ نقول:
إنْ قلت: الإيجابان يصدق عليهما أنهما عقد، لأن المناط هو الارتباط بينهما، وهو موجود في هذين الإيجابين، لكونهما واردين على الشيء الواحد، إذْ كلاهما يملّكان المتاع المعيّن بدرهم، فما المانع عن تركّب العقد من إيجابين، بعد الجواب عن الإجماع المدّعى بعدم حجيّته؟
قلت: إنّ توارد العهدين على المورد الواحد شيء، وارتباط أحدهما بالآخر بأنفسهما شيء آخر، ولعلّ إلى هذا نظر المجمعين.
ثمّ أقول:
إذا كان المحقّق لعنوان العقديّة هو الارتباط بين العهدين، فإنّ الرضا المنشأ كاف لحصول الارتباط، فالعقد متحقق وإنْ تقدم الرضا، لأنّ هذا الرضا الباطني المنشأ باللّفظ مستمرٌّ إلى حين الإيجاب اللاّحق ومتعلّق به، سواء كان إنشاؤه بصيغة الفعل، ماضياً أو مضارعاً أو بصيغة الأمر.
بقي أنه: لو قال المشتري «تملّكت كتابك بدرهمي» فقال البائع: «قبلت»، لم يبعد صدق «العقد» عليه ـ وإنْ لم يصدق عليه عنوان «البيع» ـ وحينئذ، ينطبق عليه عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فيكون صحيحاً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *