السادس: ما ذكره الميرزا الاستاذ قدّس سرّه من أن التعليق قد يناط به صحة العقد أو الإيقاع، كأنْ يقول: بعت هذا المتاع إنْ كان ملكاً لي، اعتقت هذا إن كان عبدي، ففي مثله لا مانع من التعليق، لأنه نظير القضية الحقيقيّة التي اُنيط الحكم على ثبوت الموضوع وعلّق عليه، وفيما نحن فيه كذلك، فإن قوام العقد أن يكون المال ملكاً للبائع، وكذا في العتق… فإن طبع المطلب هو وجود الإناطة.
وأمّا في غير ما ذكر، فلمّا كانت العقود الشرعيّة نظير العهود المتعارفة بين عامّة النّاس، فما أمر اللّه بالوفاء به، وما أحلّه، عبارة عمّا هو متداول بين الناس كافّة، وهو ما ليس بمعلّق ـ وأمّا ما يكون بين الملوك والدول من العهود التعليقيّة، فذاك نادر ـ فالآيات ناظرة إلى ما هو متعارفٌ بين الناس، لكونها إمضاءً لها… فالعقود التعليقيّة على خلاف المتعارف والأدلّة غير شاملة لها.
وعلاوةً على تنزيل الأدلّة على ما هو المتعارف، يمكن أنْ يقال: إنّ المتعارف هو القدر المتيقن في مقام التخاطب، فلو قال المولى لعبده: إمش إلى السوق، كان المتيقّن من المأمور به هو المشي المتعارف، فلا يقال إنه عام ليشمل المشي القهقرائي.
وكذا لو أمره بأكل الطعام، فليس له الأكل من القفا أخذاً بإطلاق الكلام، وهو يحتمل أن المولى يريد الكيفيّة المتعارفة من الأكل.
وهنا: القدر المتيقن في مقام التخاطب هو غير المعلّق.
والجواب:
إنّ هذا الوجه يتوقّف على تماميّة دعوى أنّ موضوع آية الوفاء ليس إلاّ العقود المتعارفة، وذلك أوّل الكلام، بل العموم في الآية المباركة محكّم كما ذكرنا مراراً.
وبعد:
فإنّ الوجوه المقامة على بطلان التعليق في العقود منها شرعية، مثل الإجماع، وآية الوفاء بالعقود، بدعوى أنّ موضوعها العقود المتعارفة والتعليق ليس بمتعارف، فالعقد المعلّق غير نافذ شرعاً.
وقد عرفت أنّ الإجماع المدّعى في المسألة ليس بالإجماع الكاشف عن رأي المعصوم أو الدليل المعتبر، فهو ليس بحجّة، وأنّ العموم في الآية المباركة ثابت ولا مجال لرفع اليد عن عمومها.
ومنها: عقليّة، مثل أنّ الإنسان إذا أراد تحقّق شيء اعتبر أنْ يكون الشيء ممكن التحقّق حتى تتعلّق به الإرادة، ومع جهله بتحقّقه خارجاً لا تكون إرادته له جديّةً.
وقد تقدم الجواب عنه.
ومثل: لزوم انفكاك الإنشاء عن المنشأ.
وقد تقدّم الجواب عنه كذلك.
ونقول أيضاً:
إنّ القضايا التعليقيّة إمّا شرطية أو غير شرطيّة، ففي الشّرطيّة: مقدّم وتالي، فإذا قال: إن جاء ابني غداً ملّكتك هذا بهذا، فمجئ الولد غداً هو المقدّم والتمليك هو التالي، وهو تابع للمقدّم، فإن كان حاليّاً فهو حالي وإن كان استقبالياً فهو استقبالي، لكنّ الكلام في أنّ أيّهما المعلّق؟ وإذا كان هو التالي، فإنّ: ملّكتك هذا بهذا الواقع تالياً في هذه القضية، مركّب من المادّة والهيئة، فالمادّة هي التمليك، والهيئة هيئة اسناد المادة إلى الفاعل، وإسنادها إلى الطرف المقابل، وإسنادها إلى الملك الذي يقع عليه البيع مثلاً وهو المتاع، فأين يقع التعليق على مجئ زيد في الغد؟
إن كان للمادّة، فإنّ الزمان من الأعراض، فلا يعرض العرض ولا يعرض الأمر الاعتباري بالأولويّة، لكنْ يصحّ أنْ يكون مقدّراً للعناوين الاعتبارية بالأفعال، كما إذا قال: «صلّيت في اليوم»، فالصّلاة عرض لا جوهر، و«اليوم» مقدّر ومحدّد له، وكذا «تكلّم في الليل» و«خَطَب ساعةً» وغير ذلك، فقوله: إن جاء ابني غداً ملّكتك متاعي، إنْ كان إنشاءً الآن للملكية في الغد، فلا بأس به، فالإنشاء والمنشأ ـ وهو الملكية في عالم الاعتبار ـ حاصلان الآن، وأمّا الملكية الخارجيّة فهي في الغد.
وبالجملة، فإنّه قد أنشأ ملكيةً خاصّة وهي الملكية في الغد، فالملكيّة الإنشائيّة فعلية كالإنشاء ولا انفكاك بينهما، ـ وإنّما الخارجية غير فعليّة، ولو يفرض لها الفعليّة يلزم الإنفكاك بين الإنشاء والمنشأ ـ فالإنشاء كالإخبار كأن يقول له: أنت مالك لهذا المتاع إنْ جاء زيد غداً، فكما يصحّ هذا القول ـ والإخبار لا ينفك عن الخبر ـ فكذلك الإنشاء.
نعم، يتوقف ترتّب الأثر الشرعي على هذا الإنشاء على وجود دليل من قبل الشارع، وهو عموم آية الوفاء.
وتلخص: انتفاء محذور الانفكاك.
ومثل: إنّه لو علّق مضمون العقد بشيء، فإن كان موجوداً بالفعل فخلف، لكونه خلاف مقتضى الإنشاء لأنه قد علّقه على الغد مثلاً، وإنْ كان وجوده بعد حصول الأمر التقديري، يلزم انفكاك الوجود عن الوجود، وهو مستحيل.
والجواب: إن مضمون العقد «ملّكتك هذا إن جاء زيد غداً» مشتمل على مادّة وثلاث نسب ومتعلّقات.
والتّعليق، إمّا يكون في مادّة الملكيّة، وهي من المعاني الكليّة، بأن يلحظ الملكية المعلّقة وينشئها فتوجد في عالم الاعتبار، فيكون التعليق مضيّقاً لدائرة المفهوم الكلّي الوسيع اعتباراً، ولا إشكال.
وقد كان منشأ الوهم: إنّ الإنشاء فعلي والملكيّة تحصل للطرف في الغد إنْ جاء زيد، فلزم الانفكاك.
لكنه يندفع بما ذكرنا، من أنّ الملكيّة الاعتباريّة المنشأة فعليّة كذلك، والذي يكون في الغد على التقدير هو الملكيّة الواقعيّة الخارجيّة.
وعلى الجملة، فإنّ المعتبر بإنشائه هو الملكية الخاصّة ـ أي المعلقة على القيد المذكور ـ وهي موجودة بوجود الإنشاء، لأن الانشاء والمنشأ واحد في الحقيقة ووجودهما واحد، فلا انفكاك.
وإنْ كان التعليق للنسبة، فإن كان لنسبة المادّة إلى المفعول الأوّل أو الثاني، فالأمر سهل، إذ يقول: «أنشأت ملكيّة هذا المتاع لك إن فعلت كذا» ولا مانع منه، إذ المقوّم للنسبة هو المضاف وهو الملكية الخاصّة، وإنْ كان لنسبة المادة إلى الفاعل البائع، فهو ممتنع، لأن معنى ذلك أن تمليكه المتاع للطرف الآخر إنّما هو في الغد، فكان الإنشاء والاعتبار فعليّاً لكن المنشأ والمعتبر في الغد، فيحصل الانفكاك، وهو محال، أو يخرج الكلام عن كونه إنشاءً ويكون إخباراً.
فظهر أن التعليق إن كان راجعاً إلى المادّة أو إلى المفعول، فلا محذور، وإنما المحذور في صورة الإسناد إلى الفاعل.
Menu