وتعرّض الشيخ في الأخير ـ بعد ذكر اعتبار استمرار الرّضا النفساني من كلٍّ من المتعاقدين بدءاً بالإيجاب وانتهاءً بالقبول ـ للرّضا في مسألة بيع المكره، فقال:
ثم إنهم صرّحوا بجواز لحوق الرضا لبيع المكره… لأجل الإجماع.
فهذا نقض آخر، لأنّه إذا كان الرضا بعد الإيجاب والقبول مؤثّراً مع كونه من الشرائط المعتبر وجودها في العقد، فلم لا يكون حصول الشرائط قبل القبول مؤّثراً؟
وأجاب: بأنه على خلاف القاعدة لأجل الإجماع.
وقال السيّد:
لا دليل على هذه الكليّة، وعدم صدق المعاقدة والمعاهدة إنما يتم في بعض الفروض، كما لو كان المشتري في حال إيجاب البائع غير قابل للتخاطب من جهة الإغماء أو النوم أو الجنون، وأمّا في بقيّة الصّور فنمنع عدم الصّدق، خصوصاً فيما إذا نام البائع بعد الإيجاب مع علمه بذلك وأن المشتري يقبل لا محالة، وكذا فيما إذا كان المانع هو الفلس أو السرقة أؤ السفه…(1).
وحاصله: إنه لا دليل على اعتبار توفّر الشرائط في العقد من البدء إلى النهاية.
وكأنه يريد التفصيل بين الشرائط العقلية والشّرعية، بالاعتبار في الاولى فقط، بل يستفاد من كلامه اعتبار وجود الشرائط العقلية في القابل حين إيجاب الموجب، أمّا الشرعية، فيكفي وجودها حين القبول منه، فلو أوجب الموجب فنام ووقع القبول في حال نومه صّح.
وقد وافق مشايخنا الشّيخ فيما ذهب إليه، فقال شيخنا الاستاذ:
«أمّا عدم الأهليّة لما يوجب امتناع تحقّق المعاهدة والمعاقدة، كموت الموجب أو نومه أو إغمائه أو جنونه حال قبول القابل مثلاً، فإن مناط عهد كلٍّ منهما والتزامه وإنْ كان حياة المتعهّد وعقله ويقظته، وهي مفروضة الحصول هنا، إلاّ أن مناط المعاهدة مع الغير يقتضي كونهما معاً كذلك في حال الإيجاب وفي حال القبول، إذ معيّة المتعاقدين ليست معيّة جسم مع جسم ولا معية حيوان مع حيوان، بل معية شاعر ملتفت إلى ما يلتزم للغير ويلتزم له الغير، وإلاّ فلا ينقدح القصد الجدّي في نفس العاقل إلى المعاهدة مع من هو كالجدار أو الحمار، وعلمه بالتفاته فيما بعد لا يصحّ المعاهدة معه فعلاً…».
وحاصله: إنّ عنوان «المعاقدة» و«المعاهدة» متقوّم بالمعيّة، وهي ليست خارجيّة بل نفسانيّة وهي العهد، وقِوام العهد بالالتفات والإدراك، فلابدّ أنْ تكون بينهما معيّة في الشعور والإدراك والالتفات من أول العقد إلى آخره، فلو فقد شيء من الشرائط في أحدهما عند إنشاء الآخر، انتفت المعيّة، والعقد غير متحقق.
قال: «ومنه تبيَّن أنّ جعل الحكم في المكره على خلاف القاعدة لأجل الإجماع غير وجيه أيضاً، إذ الإجماع لا يجعل غير العقد عقداً، بل عقد حقيقي منوط تأثيره بتبدّل الإكراه بالرضا الطبعي، فإذا تبدّل دخل في التجارة عن تراض حقيقة»(2).
وحاصله: إنّ مؤثّرية لحوق الرّضا على القاعدة خلافاً للشيخ، لأنّ المكره ملتفت إلى المعنى قاصدٌ له، غير أنه مكره على هذا القصد ولم يصدر منه عن طيب نفس، كما لو كان مضطرّاً إلى بيع داره مثلاً، حيث أن الرّضا العقلي موجود وإنْ لم يكن عن طيب نفس، فإذا لحقه الرّضا أثّر أثره، وأمّا إذا كان مكرهاً على العقد بحيث لا يكون قاصداً للمعنى وكان مجرّد لقلقة اللّسان، فلا أثر للرّضا اللاّحق أصلاً.
وقال الميرزا الاستاذ ما حاصله:
إنه كما يكون إنشاؤه في حال فقد بعض الشرائط العقليّة لغواً، كذلك يكون بالاعتبار الشرعي إذا أنشأ في حال فقد شيء من الشرائط الشرعيّة، فبطلان العقد يرجع إلى عدم القصد حقيقةً أو تنزيلاً.
وأما لحوق الرضا في بيع المكره فعلى القاعدة[1].
[1] وفي منية الطّالب: «لا فرق بين الموت والجنون ونحوهما وبين الفلس والرقيّة ونحو ذلك، لأنّ المدار في التطابق بين المشتري والبائع حال العقد على اجتماع جميع شرائط الصحّة واللّزوم. وبعبارة اخرى: المدار على ما به يصير العقد عقداً. نعم، رضا المشتري حين إيجاب البائع وكذا العكس غير معتبر في صحّة العقد والمعاهدة، لأنّ ما يعتبر في صدق العقد هو قصدهما لإيجاد المادّة لا رضاهما به، فلا يكون صحّة المكره إذا لحقه الرّضا على خلاف القاعدة»(3).
فنقول:
إن مقتضى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وجود العقد وتحقّقه، والعقد ـ كما ذكرنا مراراً ـ هو العهد المشدّد أو المؤكّد أي المرتبط بعهد آخر، إذنْ، لابدّ من العهد من الطّرفين والارتباط بينهما، أمّا اعتبار وجود العهد من كلٍّ منهما في حين عهد الآخر، فلا دليل عليه من الآية وغيرها، فلو أوجب البيع مثلاً واجداً للشرائط ولم يكن للقابل عهد أو ما كان واجداً للشرائط، ثم حصل له العهد أو توفّرت فيه حين القبول فقبل، كان مقتضى القاعدة الصحّة، لصدق الارتباط بين العهدين المحقّق لعنوان العقدية، ولا يلزم أنْ يكون الارتباط في زمان واحد.
إذن، لابدّ من الدقّة في هذه النّاحية، فإنّ الارتباط بين العهدين الواجدين للشرائط مقوّمٌ للعقد، ولكنْ لا يلزم أن يكون في زمان واحد، فلو حَصَل العهد الإيجابي في زمان وبقي مستمرّاً إلى العهد القبولي الواقع في زمان آخر، لماذا يكون باطلاً؟
(1) حاشية المكاسب 1 / 446.
(2) حاشية المكاسب 1 / 291 ـ 292.
(3) منية الطالب 1 / 115.