الجواب عنه
ونقول في الجواب عن التفصيل المذكور إنه:
إن كانت صيغ العقود إيجاداً للملكيّة العقلائيّة، كما هو الظاهر من كلماتهم، فما ذكره حق لا محيص عنه، لكون الملكيّة بسيطةً ـ بل هي أبسط من المقولات التسع التي هي بسائط في الخارج وإن كانت مركّبة بالدقة العقلية في مقام تصوّر ماهيّتها ـ وذلك، لأنها أمر اعتباري، والإعتبار بسيط في جميع شئونه، وقوامه بالاعتبار المحض، والأمر البسيط دفعي الوجود لا يعقل تدرّجه.
وأمّا بناءً على ما هو الحق من أن الاعتبار أمر قائم بنفس المعتبر، وهو متعدّد، فتارةً هو البائع بوحده، فإذا قال «بعت» تحقق البيع في اعتباره فقط، ولا وجه لأنْ يقال بأنّ البائع الموجب يُوجد الاعتبار العقلائي، بل إن اعتبار العقلاء قائم بنفس العقلاء، فإنْ كان لهم اعتبارٌ على طبق اعتبار البائع أصبح البيع عقلائيّاً، ثم إنْ كان للشارع اعتبارٌ على طبق اعتبارهم ترتب الأثر على ذلك الإنشاء شرعاً، وإلاّ فقد خطأ العقلاء في اعتبارهم.
والحاصل: إنّ هنا اعتبارات، وكلٌّ منها قائم بنفس المعتبر، من المالك البائع، والعقلاء، والشارع، ولكلّ من هذه الاعتبارات أثره المختصُّ به عندما يكون لكلٍّ منها مصحّحٌ.
فظهر: أنه لمّا أنشأ البايع، فقد أعلن عن اعتباره النفساني، سواء كان إبرازه بلفظ «بعت» أو «ملكت» أو «نقلت»، لا أن اللّفظ موجدٌ للملكية حتى يقال بأنّها أمر بسيط ولا يعقل تدرّجه في الوجود، وإنما الحاصل تجلّي البسيط الناشئ في النفس، والتدرّج في التجلّي والإظهار لا مانع منه.
وعلى الجملة: فإنّ هذا التفصيل مبنيٌّ على أن الألفاظ أسباب وآلات لوجود البيع وغيره من الامور الاعتباريّة العقلائيّة، كما عليه المشهور، وقد عرفت أنّ المبنى غير صحيح.
وغاية ما يمكن أن يقال: إنّ العقلاء قد اعتبروا الآلية للألفاظ لتحقّق تلك الامور الاعتباريّة، لا أنها آلات حقيقةً، وعليه، فلا مانع من اعتبار الآليّة للمركّب التدريجي.
وعلى كلّ حال، فالتفصيل المزبور ساقط]1[.
]1[ أقول: إن التفصيل المذكور موجود في كلا تقريري بحث الميرزا النائيني بألفاظ متقاربة(1)، وأنا ذاكر خلاصة ما جاء في منية الطالب، ليظهر الفرق بين تقريرهما وتقرير السيّد الجدّ، رحمهم اللّه:
أمّا مقدّمات المطلب، فهذه خلاصة كلّ واحدة منها:
الاُولى: إنه لو شك في صدق عنوان من عناوين العقود والايقاعات على لفظ صادر من الموجب والقابل أو الموقع، فأصالة الفساد تقتضي عدم صحّته. وأمّا مع صدق العنوان عليه عرفاً فمقتضى الإطلاقات والعمومات عدم اعتبار ما شك في شرطيته في مادة العقود والايقاعات أو هيئتهما.
نعم، لو منع من صدق البيع عرفاً على ما إذا أنشأ بغير لفظ الماضي أو بما إذا لم يكن بين الايجاب والقبول موالاة أو بما أنشأ بالكناية ونحوها أو ادّعى الإنصراف عنها، فلا يفيد الإطلاق.
الثانية: لا شبهة فى الفرق بين الحكايات والإيجاديّات، فإنّ الحكايات لا يتعلق غرض بها إلاّ إظهار ما في الضّمير وإلقاء المقصود إلى المخاطب، فكلّ لفظ لم يكن خارجاً عن اسلوب المحاورة، يصحّ إظهار ما في الضّمير به، سواء كان الاستعمال حقيقة أم مجازاً صريحاً أم كناية، كانت قرينة المجاز حاليّة أو مقاليّة، كان المجاز بعيداً أو قريباً، وهذا بخلاف الإيجاديّات، فإنها لا توجد إلاّ بما هو آلة لإيجادها ومصداقاً لعنوانها، فلو لم يكن شيء مصداقاً لعنوان وآلة لإيجاده بل كان للازمه أو ملازمه، لم يوجد الملزوم أو الملازم الآخر به، وإن كان الغرض من إيجاد اللاّزم أو الملازم إيجاد الملزوم أو الملازم الآخر بحيث كان هو المقصود الأصلي، إذ لا عبرة بالدّواعي والأغراض في الإيجاديات، فلو قصد البيع وأتى بغير ما هو مصداقه فلا أثر له.
الثالثة: لا شبهة في أنّ البيع بل كلّ عنوان من عناوين العقود والإيقاعات، عنوان بسيط ليس مركّباً من الجنس والفصل، فإذا كان بسيطاً فلا يمكن إيجاد هذا المعنى تدريجاً، بل إمّا أن يتحقق آناً أو لا يتحقق أصلاً، بل المركب من الجنس والفصل أيضاً لا يمكن أن يوجد تدريجاً، فإنّ تحصّل الجنس إنّما هو بالفصل وتحقّق الهيولى إنّما هو بالصّورة، فلا يعقل أن يوجد المادّة أوّلاً ثم الصّورة. فإذا كان هذا حال المركّب الخارجي فكيف بما هو بسيط وما به امتيازه عين ما به اشتراكه، فإنّ السواد الشّديد بعين ما هو لون يكون سواداً أو بعين ما هو سواد يكون شديداً، وهكذا التّمليك البيعيّ والقرضيّ ونحوهما من الهبة والاجارة، يكون التّمليك في كلّ منها بعين كونه بيعاً أو قرضاً أو نحوهما، أي لا يكون التّمليك في البيع جنساً وبيعيّته فصلاً بل هو بيع بعين كونه تمليكاً، بل لا شبهة أنّ التّمليك ليس شيئاً والبيع شيئاً آخر، وإن قلنا بأنّ كلّ واحد من هذه الأمور الأربعة مباين في السنخ مع الأخر، مضافاً إلى أنّ التّمليك في جميع هذه الأمور أمر واحد، وإنّما الاختلاف بينها كالاختلاف بين أفراد البيع. وعلى أيّ حال، المعنى المنشأ بلفظ بعت أمر بسيط ليس مركّباً من الجنس والفصل، ولا يمكن أن يوجد تدريجاً كتدريجيّة الباء والعين والتّاء.
وبعد هذه المقدّمات (قال) يقع البحث تارةً في صحّة إنشاء العناوين بالكنايات، واخرى بالمجازات، وثالثةً بالمشترك اللفظي، ورابعة بالمشترك المعنوي.
أمّا كلامه في الكنايات، فقد تقدّم.
قال: وأمّا صحّته بالمجاز، فإن كان مجازاً مشهوراً، فالأقوى كفايته دون ما لم يكن كذلك، وذلك لأنّ الشّهرة توجب أن لا يحمل اللّفظ على معناه الحقيقي أو المجازي، إلاّ بانضمام قرينة معيّنة لأحدهما، فعدم حمله على معناه الحقيقيّ بمجرّد التلفّظ يجدي في وقوعه ولا يلزم إيجاد عنوان البسيط تدريجاً، وهذا بخلاف المجاز الغير المشهور، فإنّه يحتاج إلى قرينة صارفة أيضاً، فحاله أردء من الكناية، لأنّ ما يوجد به بحسب الدلالة التّصوريّة هو معناه الحقيقيّ وبحسب الدلالة التّصديقيّة معناه المجازيّ فيتناقضان، وليس باب الإيجاد كباب الحكاية كما عرفت، ولذا قال المشهور بأن بعتك بلا ثمن وأجرتك بلا اجرة لا يفيدان فائدة الهبة الصّحيحة والعارية كذلك، وليس ذلك مع أنّ القرينة الصّارفة مقرونة باللّفظ إلالأن ما اوجد أوّلاً بلا مجئ القرينة كان معانداً لما اُوجد ثانياً، ولا يمكن إرجاع ما اُوجد عمّا هو عليه في الإيجاديات وإن أمكن في الحكايات. نعم، لو قيل بأنّ في باب المجاز لا ينشأ بالقرينة شيء حتى يكون بين القرينة وذي القرينة تناقض، بل عنوان العقد ينشأ بنفس ذي القرينة، والقرينة كاشفة عن المعنى المقصود من ذي القرينة، ولذا التزمنا بصحّة إنشاء العناوين بالمجازات، لصحّ إنشاؤها بالمجاز الغير المشهور أيضاً، سواء كانت قرينته حاليّة أو مقاليّة، إلاّ أن يمنع كون المجاز الغير المشهور آلةً لإيجاد العنوان الّذي قصد إيجاده عرفاً، فإنّ مجرّد قصد العنوان من اللّفظ مع عدم كون اللّفظ آلة لإيجاده لا أثر له، فإنّه في حكم القصد المجرّد، ولذا قلنا في أوّل المعاطاة بالفرق بين الفعل واللّفظ، وانّ الفعل لو قصد به التّمليك يقع به وإن كان مصداقاً للتّسليط، وهذا بخلاف قوله سلّطتك، وذلك، لأنّ التّسليط الخارجي لو قصد منه البيع يصيّره مصداقاً لهذا العنوان، لقيام السيرة عليه دون التسليط اللّفظي.
وأمّا صحّته بالمشترك اللّفظي، فلو كان هناك لفظ مشترك لفظاً بين عنوان عقدين أو عقود، كاشتراك لفظ الشراء بين البيع والاشتراء، فلا مانع عن إنشائه به، لأنّه لا يوجب تعيّن معناه بالقرينة المعيّنة أن يوجد العنوان بالقرينة حتى يلزم تدريجيّة المعنى البسيط، بل العنوان ينشأ بنفس اللّفظ والقرينة كاشفة عن وقوع اللّفظ في مقام إنشاء هذا العنوان، إلاّ أن يقال: إنّ القرينة متمّم المراد والمعنى يستفاد من مجموع القرينة وذيها، كاستفادة موضوع الحكم في العام المخصّص من مجموع العام والخاص.
وأمّا صحّته بالمشترك المعنوي، فلو كان مشتركاً بين العقود التّمليكيّة كملكت صحّ إنشاؤها به، ويتعيّن كلّ واحد من العناوين المقصودة بالقرينة المكتنفة به، ولا يلزم إشكال إيجاد الأمر البسيط تدريجاً، لأنّه لو فرض أنّ البيع والقرض والهبة والإجارة مفيدة للتّمليك والتملّك الحاصل بكلّ منها حاصل بعين ذلك العنوان لا بغيره فلا يلزم التدريجيّة، فإنّ البيع بما هو بيع تمليك وهكذا الهبة بما أنّها هبة تمليك، والخصوصيّات الخارجية ككون البيع بعوض معيّن والهبة بلا عوض كالخصوصيات اللاّحقة لأفراد البيع، فكما أنّ هذه الخصوصيّات لا توجب اختلافاً في حقيقة البيع ولا تضرّ ببساطته فإنّ معنى بساطته بساطة أصل الحقيقة لا مع الشّروط المذكورة فيه ولا مع بيان عوضه ومعوّضه ونقده ونسيته، فكذلك تلك الخصوصيّات. ولو كان مشتركاً بين العقود التمليكيّة وغيرها من النّقل الخارجي كلفظ نقلت، فلا يصحّ إنشأ التّمليك العقدي به، لأنّ ما به امتياز النّقل الخارجي عن النّقل الاعتباري ليس بعين ما به اشتراكهما، فلا يمكن انشاء تمام معنى البسيط به، بل ينشأ الجنس العالي أوّلاً ثم يميّز بالفصل، فيلزم التدريجيّة في الوجود.
قال الشيخ:
ومع هذه الكلمات، كيف يجوز أن يسند إلى العلماء أو أكثرهم وجوب إيقاع العقد باللفظ الموضوع له، وأنه لا يجوز بالألفاظ المجازيّة، خصوصاً مع تعميمها للقريبة والبعيدة كما تقدم عن بعض المحققين. ولعلّه لما عرفت من تنافي… جمع المحقق الثاني… بحمل المجازات الممنوعة على المجازات البعيدة، وهو جمع حسن، ولعلّ الأولى… .
أقول:
أخرج المحقق الثاني المجاز البعيد، وأخرج الشيخ المجاز ذي القرينة الحاليّة، ويسري ذلك إلى المشترك ذي القرينة الحالية.
ثم إنّ جمع الشيخ وإنْ كان أحسن من جمع المحقق الثاني كما أفاد، لكنّ الإنصاف أنه مخالف لظواهر كلمات الفقهاء، وقد قدّمنا أنه لا فرق في القرينة بين الحاليّة واللفظيّة، لكونها صارفةً عن المعنى الحقيقي، لا دخيلةً في الدلالة على المعنى المقصود.
وتحصّل مما ذكرنا: أنّ المناط قيام الحجة على مضمون العقد، سواء كان صريحاً أو ظاهراً، وسواء كان الظهور بالدلالة المطابقية أو الالتزامية، وسواء كان بالمجاز القريب أو البعيد، وسواء كان بالمشترك اللفظي أو المعنوي، القريب أو البعيد، وسواء كانت القرينة حالية أو قوليّة، أو غير ذلك.
نعم، يُعتبر أن تكون الحجّة ممّا يحتجّ به العقلاء كلّهم في محاوراتهم وخصوماتهم، ولا تختصّ بالشخص وحده.
وذلك، لأنه لمّا فرض صدق عنوان البيع ـ مثلاً ـ عليه بالحمل الشائع الصناعي، فإنّه سيكون صغرى للعمومات والإطلاقات، والتي قد عرفت اندفاع الإشكالات عنها.
(1) منية الطالب 1 / 104107، المكاسب والبيع 1 / 276.