الاستدلال بالنصوص
وأمّا إطلاقات الضّمان، وهي كثيرة جدّاً، كقوله عليه السّلام في العارية:
«المستعير ضامن»(1).
وقوله عليه السلام في الوديعة وضعها في دار جاره فضاعت:
«هو ضامن لها».
وقوله في الدّابة اكتراها:
«إن جاز الشرط فهو ضامن،… وإنْ سقطت في بئر فهو ضامن».
وقوله في القصّار… .
«كلّ أجير يعطى… فهو ضامن».
وقوله في النجّار:
«فضمّنه أمير المؤمنين».
ومن النصوص في ذلك:
عن داود بن سرحان عن أبي عبداللّه عليه السّلام: «في رجل حمل متاعاً على رأسه فأصاب إنساناً فمات أو انكسر منه شيء فهو ضامن»(2).
عن سليمان بن خالد عن أبي عبداللّه عليه السّلام قال: «إذا رهنت عبداً أو دابّةً فمات فلا شيء عليك، وإن هتك الدابة أو أبق الغلام فأنت ضامن»(3).
عن عبداللّه بن سنان عن أبي عبداللّه عليه السّلام وعن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرّضا عليه السّلام وعن صباح الحذاء وعن إسحاق بن عمّار عن أبي إبراهيم موسى عليه السّلام: «في الرّجل يأتي البهيمة فقالوا جميعاً: إن كانت البهيمة للفاعل ذبحت، فإذا ماتت أحرقت بالنّار ولم ينتفع بها، وضرب هو خمسة وعشرين سوطاً ربع حدّ الزّاني، وإن لم تكن البهيمة له قوّمت وأخذ ثمنها منه ودفع إلى صاحبها وذبحت وأحرقت بالنّار ولم ينتفع بها وضرب خمسة وعشرين سوطاً، فقلت: وما ذنب البهيمة؟ فقال: لا ذنب لها، ولكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فعل هذا وأمر به، لكيلا يجتزئ الناس بالبهائم وينقطع النّسل»(4).
عن الحلبي، عن أبي عبداللّه عليه السّلام قال: «سألته عن المملوك بين شركاء فيعتق أحدهم نصيبه فقال: إنّ ذلك فساد على أصحابه (فلا يستطيعون) بيعه ولا مؤاجرته فقال: يقوّم قيمة فيجعل على الذي أعتقه عقوبة، وإنما جعل ذلك عليه لما أفسده»(5).
عن أبي ولاّد عن أبي عبداللّه عليه السلام: «قيمة بغل يوم خالفته»(6).
علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السّلام قال: «سألته عن بختي مغتلم قتل رجلاً فقام أخو المقتول فعقر البختي وقتله، ما حاله؟ قال: على صاحب البختي دية المقتول، ولصاحب البختي ثمنه على الذي عقر بختيه»(7).
عن السكوني عن أبي عبداللّه عليه السّلام: «إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكين، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: يقوّم ما فيها ثمّ يؤكل لأنّه يفسد وليس له بقاء، فإن جاء طالبها غرموا له الثمن، فقيل: يا أمير المؤمنين، لا يدري سفرة مسلم أو سفرة مجوسي؟ فقال: هم في سعة حتّى يعلموا»(8).
ثم إنّ الماليّة على أنحاء:
منها: أن يكون الشيء في ذاته ثميناً كالجواهر.
ومنها: أن تكون الماليّة بحسب القلّة والندرة، كالفاكهة في بداية موسمها.
ومنها: أنْ يكون تفاوت المالية بحسب الزّمان، كالملابس الشتويّة، فإنها في فصل الشتاء أغلى منها في فصل الصيف، وكذا بالعكس.
ومنها: أنْ تكون متفاوتة بحسب البلاد، فيكون الثوب مثلاً في مكان أغلى منه في غيره.
ومنها: أنْ يكون بحسب كونه جديداً أو عتيقاً.
ومنها: أنْ يكون بحسب الجودة وعدمها.
فلتفاوت القيم أنحاء كثيرة… وعلى الضّامن تدارك الخسارة، ويدلّ إجماعهم على أنّ المثلي بالمثل على وجوب تدارك المالية في ضمن المثل، والمثلي ما كان له ما يساويه في الإندراج تحت جامع واحد ويساويه في الماليّة ويكون له الغلبة في الوجود.
وأمّا إذا لم يكن للشيء مثل أو كان نادر الوجود، فالمتفاهم عرفاً دفع الثمن، وهو المتمحّض في الماليّة، وهو الدرهم والدينار.
وأمّا لو وجد المماثل لكنّ القيمة متفاوتة بحسب الزمان أو المكان، فالواجب دفع القيمة أو المثل مع تدارك التفاوت.
فهذا مقتضى أدلّة الضمان، وهي الدليل الوحيد على الوجوب، وهو موكول إلى نظر العرف، وليس نظره إلاّ ما ذكرناه[1].
[1] أقول: لقد أجاد فيما أفاد، وقد وفا المقام حقّه بالدقّة في الأدلّة وأتى بما هو فوق المراد، فبيّن حقيقة المثلي والقيمة، وفصّل الكلام في مقتضى الأصل، وذكر حقّ المطلب في الاستدلال لما ذهب إليه المشهور من أن ضمان المثلي والقيمي بالقيمة.
وقد استدلّ بوجوه اخرى:
منها: النبوي المشهور: على اليد ما أخذت… بتقريب أن المستفاد منه أنّ كلّ ما وقع تحت اليد فهو مضمون، وعلى الضامن أداء ما هو الأقرب إليه، ومن الواضح أنّ الأقرب في المثليّات هو المثل وفي القيميات هو القيمة.
وفيه: إن ظاهر الحديث هو أنّ الشيء المأخوذ في ذمّة الآخذ على يؤدّيه بأنْ يرجعه إلى مالكه ما دام الشيء موجوداً، وإلاّ وجب أداء ما هو الأقرب إليه من جهة الخصوصيّات، لكونها مستقرّةً في ذمّة الآخذ كذلك، ولا شك عند أهل العرف في أنّ الأقرب هو المثل سواء في المثليّات والقيميّات، ولو تعذّر المثل في القيمي وصلت النوبة إلى القيمة فيه، فالحديث غير دالّ على ما ذهب إليه المشهور.
وإنما نهتمّ بدلالة الحديث بناءً على الاعتناء سنداً لاشتهاره بين الأصحاب وإلاّ فيكفي في الجواب عن الاستدلال به ضعف سنده.
ومنها: أدلّة احترام مال المسلم وأن حرمته كحرمة دمه.
ولكنْ لا وجه للاستدلال بها هنا، لعدم ظهورها في الضمان، ولو سلّم، فغاية ما تدلّ عليه هو ثبوت الضّمان.
ومنها: الأخبار في شراء الأمة المسروقة المذكور بعضها سابقاً.
وفيه: إنّ غاية ما تدلّ عليه ثبوت الضّمان، أمّا الضمان بأيّ شيء فلا دلالة فيها عليه.
ومنها: السّيرة العقلائية، وقد اعتمده في المصباح(9) لأن العقلاء متّفقون على أنّ الإنسان إذا أخذ مال غيره ووضع يده عليه بغير سبب شرعي ضمنه بجميع خصوصيّاته الشخصيّة والماليّة والنوعيّة، وأنه لا يخرج عن عهدته إلاّ بردّ عينه إلى مالكه، فإذا تلفت العين وجب على الضامن ردّ ما هو أقرب إليها، ومن الواضح أن الأقرب إلى العين التالفة إنما هو المثل في المثلي والقيمة في القيمي، وعلى هذا فلا يكتفي بردّ أحدهما في موضع الآخر إلاّ برضا المالك، وهذا هو المرتكز في أذهان العقلاء.
لكنّ الملاحظ عليه: الظاهر أنه ليس من سيرة العقلاء دفع القيمة في القيمي حتى مع التمكّن من دفع مثله، فهم يدفعون المثل في المثلي والقيمي بلا فرق، ولا ينتقلون إلى القيمة إذا تمكنوا من تسليم مثل التالف القيمي، لأنه مع تسليمه فقد سلّم خصوصية الماليّة وخصوصيّة النوعيّة، أمّا لو سلّم القيمة فقد سلّم خصوصيةً واحدةً، وعند دوران الأمر لا يتردّد العقلاء في تسليم ذي الخصوصيّتين لكونه هو الأقرب إلى التالف.
ومنها: آية الاعتداء. وقد تكلّم السيد الجدّ على الاستدلال بها.
وانتهى رحمه اللّه إلى الاستدلال بالنّصوص مع الأخذ بنظر العرف، وتبعه بعض مشايخنا دام بقاه ـ بعد الردّ على سائر الوجوه ـ فأورد النصوص من كتاب الرّهن(10):
عن أبي قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول علي عليه السلام: يترادّان الفضل. فقال: كان علي يقول ذلك. قلت: كيف يترادّان؟ فقال: إنْ كان الرهن أفضل ممّا رهن به ثم عطب، ردّ المرتهن الفضل على صاحبه، وإنْ كان لا يسوى، ردّ الرّاهن ما نقص من حق المرتهن».
وعن إسحاق بن عمّار قال: «سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن الرجل يرهن الرهن بمائة درهم ـ وهو يساوي ثلاثمائة درهم ـ فيهلك، أعلى الرجل أن يردّ على صاحبه مائتي درهم؟
قال: نعم، لأنه أخذ رهناً فيه فضل وضعية: قلت: فهلك نصف الرهن. قال: حساب ذلك. قلت: فيترادّان الفضل؟ قال: نعم».
وعن ابن بكير قال: «سألت أبا عبداللّه عليه السلام في الرهن، فقال: إن كان أكثر من مال المرتهن فهلك أن يؤدّي الفضل إلى صاحب الرهن، وإنْ كان أقل من ماله فهلك الرهن، أدّى إليه صاحبه فضل ماله، وإنْ كان الرهن سواء فليس عليه شيء».
وعن محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قضى أمير المؤمنين في الرهن إذا كان أكثر من مال المرتهن فهلك، أنْ يؤدّي الفضل إلى صاحب الرهن، وإنْ كان الرهن أقل من ماله فهلك الرهن، أدّى إلى صاحبه فضل ماله، وإن كان الرهن يسوى ما رهنه، فليس عليه شيء».
وجه الاستدلال: إن هذه النصوص، إمّا موردها مطلق يعمُّ المثلي، فتدلّ على وجوب القيمة في المثلي أيضاً، فتخصّص بالاجماع القائم على المثل في المثلي، وإنْ كان موردها خصوص القيمي ـ كما قيل ـ أي سواء وجد مثله أوْ لا، فترفع اليد عن هذا الاطلاق بالاجماع ولا يعبأ بخلاف الإسكافي.
(1) تقدمت هذه النصوص سابقاً.
(2) وسائل الشيعة 19 / 152، الباب 30 من أبواب الإجارة، الرّقم: 11.
(3) وسائل الشيعة 18 / 388، الباب 5 من أبواب الرهن، الرّقم: 8 .
(4) وسائل الشيعة 28 / 357، الباب 1 من أبواب نكاح البهائم…، الرّقم: 1.
(5) وسائل الشيعة 23 / 36، الباب 18 من أبواب العتق، الرّقم: 1.
(6) وسائل الشيعة 19 / 119، وسيأتي نصّه الكامل في موضعه من الكتاب.
(7) وسائل الشيعة 29 / 251، الباب 14 من أبواب موجبات الضمان، الرّقم: 4.
(8) وسائل الشيعة 25 / 468، الباب 23 من أبواب اللقطة، الرّقم: 1.
(9) مصباح الفقاهة 3 / 150.
(10) وسائل الشيعة 18 / 390، الباب 7 من أبواب الرّهن.