هل الرضا المتأخّر ناقل أو كاشف؟
قال الشيخ
بقي الكلام في أنّ الرّضا المتأخّر ناقل أو كاشف؟ مقتضى الأصل وعدم حدوث حلّ مال الغير إلاّ عن طيب نفسه هو الأوّل. إلاّ أنّ الأقوى بحسب الأدلّة النقليّة هو الثاني.
أقول:
مقتضى القاعدة أن يكون الرّضا ناقلاً، لأنّ الملكيّة إنما تحصل من حين الرّضا، سواء كان الرّضا مقتضياً أو كان الإكراه مانعاً، ولذا كان على المشتري أنْ يدفع اُجرة مثل المنافع التي استوفاها من المبيع إلى حين تحقق الرّضا.
هذا هو مقتضى القاعدة، لكنّ الشيخ اختار الكشف، بتنقيح المناط من النصوص الواردة في بيع الفضولي، كرواية عروة البارقي ورواية محمد بن قيس وغيرهما، فكما ينكشف هناك بالإجازة ـ إنكشافاً حكميّاً ـ مالكيّة المشتري من حين العقد، كذلك هنا في بيع المكره إذا رضي المالك لاحقاً. وعلى هذا، فلا يجب دفع اُجرة المثل.
قال:
وربما يدّعى أنّ مقتضى الأصل هنا وفي الفضولي هو الكشف، لأن مقتضى الرّضا بالعقد السّابق هو الرّضا بما أفاده من نقل الملك حين صدوره، فإمضاء الشارع للرّضا بهذا المعنى … لا يكون إلاّ بالحكم بحصول الملك في زمان النقل. وفيه…
أقول:
وحاصل إشكال الشّيخ هو: إنّ المنشأ ليس الملكيّة من حين العقد، بل إنه أوجد ما يكون سبباً للملكيّة الشّرعيّة، فإنْ كان سبباً تامّاً لها ثبتت فعلاً، وإنْ لم يكن كذلك، فإنّها تتحقّق عند تماميّته.
قال: فحصول النقل في نظر الشارع يتبع زمان حكمه الناشئ من اجتماع ما يعتبر في الحكم، ولذلك كان الحكم بتحقق الملك ـ بعد القبول أو بعد القبض في الصّرف والسّلم والهبة، أو بعد انقضاء زمان الخيار على مذهب الشيخ ـ غير مناف لمقتضى الإيجاب، ولم يكن تبعيضاً في مقتضاه بالنسبة إلى الأزمنة.
وحاصل ذلك: إن البيع بما هو بيعٌ لا يفيد الملكيّة من حينه، بل هو سببٌ للملكيّة الشرعيّة، وإنما يترتب عليه الأثر إذا تمت سببيّته.
قال:
فإن قلت: حكم الشارع بثبوت الملك وإنْ كان بعد الرّضا إلاّ أنّ حكمه بذلك لمّا كان من جهة إمضائه للرّضا بما وقع، فكأنّه حكم بعد الرّضا بثبوت الملك قبله.
قلت: المراد هو الملك شرعاً، ولا معنى لتخلّف زمانه عن زمان الحكم الشرعي بالملك.
أقول:
توضيح الإشكال:
حكم الشارع بالملكيّة بتحقق الرّضا متأخّر، أمّا المحكوم به وهو الملكيّة فمن حين العقد، لأنّ حكم الشارع بالملكيّة جاء على طبق رضا المالك، والذي رضي به المالك هو الملكيّة من حين العقد، فالشارع قد حكم الآن بالملكيّة من ذلك الحين.
وتوضيح الجواب:
إنه لا معنى لأن تتخّلف الملكيّة الشرعيّة عن حكم الشارع، بأنْ تكون الملكيّة قبل حكمه. وذلك، لأنّ الملكيّة أمر اعتباري، ونسبة الاعتبار إلى المعتبر نسبة الإيجاد والوجود، وهما حقيقةً واحد، ويختلفان بتعدّد النسبة، فكما لا معنى لأنْ يكون الإيجاد فعليّاً والوجود قبلُ أو بعدُ، كذلك التمليك وهو اعتبار الملكيّة، فإنه والملكيّة شئ واحد، فلا يعقل أنْ يكون الاعتبار متأخّراً والملكيّة متقدّمة.
وربّما يتوهّم من كلام الشيخ أنه يريد أنّ البائع غير قاصد للملكيّة الفعليّة، والحال أنّ الموجب والقابل يقصدان الملكيّة من حين العقد، وقد عرفت أنْ لا مجال لهذا التوهّم.
ثم أقول:
إنّ الملكيّة والتمليك أمر واحد حقيقةً ومتعدّدان اعتباراً، ولكنْ هل أنّ متعلّق التمليك هو طبيعة الملكيّة أو الملكيّة من الحين؟ لا إشكال في أنّ المنشأ هو طبيعة الملكيّة، إلاّ أنّه لمّا كان الإنشاء بالفعل كانت الملكيّة بالفعل.
بل مقتضى الدقّة هو: إن الزّمان ـ وهو من المقولات التسعة ويعبّر عنه بـ«متى» ـ لا يعرض على الامور العرضيّة، فكيف بالامور الاعتباريّة كالملكيّة، وإنما الشخص نفسه زماني فيقع فعله في الزمان، والزمان ليس عارضاً على الملكيّة، وإنما يعرض متعلّق الملكيّة، كقولنا: منفعة العين في الزّمان الفلاني.
وتحصّل:
إنّ البائع يعتبر الملكيّة، فإن كان له موضوعيّة للاعتبار الشرعي، جاء الاعتبار الشرعي على طبقه، وإلاّ فلا. وربما يكون سبباً للاعتبار الشرعي بضميمة أمر آخر.
هذا، وتوهّم كون الكشف هو مقتضى القاعدة، مندفع:
أمّا أوّلاً، فلأن البائع لا يقصد إيجاد الملكيّة من حين العقد، وإنما ينشئ طبيعة الملكيّة، غير أنّ الإنشاء لمّا كان فعليّاً يكون المنشأ كذلك، لا أنه قد أنشأ الملكيّة المقيّدة بكونها من حين العقد، نظير الطلب، فإنه إنشاء لطبيعة الطلب لا الطلب الفعلي، ولذا لا يدلّ الأمر على الفور.
وأمّا ثانياً، فلأنّ اعتبار الشارع الملكيّة هو بعد الرّضا، وحيث أنّ اعتبار الملكيّة متحد مع الملكيّة، فلا يعقل تقدّم الملكيّة على حكم الشّارع.
قال الشيخ:
وإنْ شئت توضيح ما ذكرنا فلاحظ مقتضى فسخ العقد…
أقول:
إنْ كان مقصوده هو التنظير من جهة أن الفسخ من الحين لا من الأصل، فنعمّا هو، لكن لا يخفى الفرق بين الرضا والفسخ من جهة اخرى، فإنّ الفسخ يكون بعد العقد التامّ المؤثر في الملكيّة من حيث جميع الآثار، ولكنْ لمّا كان العقد جائزاً، فإنّه يحلّ العقد كما تحلّ البيعة من الحين.
فالرّضا ليس عدل الفسخ، بل هو عِدل الردّ، كما أنّ عدل الفسخ هو الإمضاء.
فمقصود الشّيخ مجرّد التشبيه والتنظير من جهة ما نحن فيه، لا من جميع الجهات.
قال:
ثم على القول بالكشف، هل للطرف غير المكره أنْ يفسخ قبل رضا المكره أمْ لا؟
أقول:
يأتي بيانه في الفضولي إنْ شاء الله، لكنّ الغرض من التعرّض لهذا هنا هو أنّ الطرف المقابل يحتمل نفوذ العقد ولزومه في نفس الأمر، لاحتماله رضا البائع فيما بعد، فيكشف رضاه عن تأثير العقد من حين صدوره، فليس له أن يفسخ، لعدم كونه من العقود الجائزة، وليس الأمر كذلك على القول بالنقل.
لكنّ البحث عن جواز التصرّف من الطرف المقابل في المال الذي دفعه وعدم جوازه، وجواز الفسخ وعدمه، يأتي على النقل والكشف معاً.