نقد تفصيل المحدث الكاشاني
قال الشيخ:
وبه يظهر ضعف ما عن المحدّث الكاشاني من أنّ الأظهر جواز بيعه وشرائه فيما جرت العادة به من الأشياء اليسيرة، دفعاً للحرج.
وهذه عبارته في كتاب المفاتيح: الأظهر جواز بيعه وشرائه فيما جرت العادة به منه في الشئ الدون دفعاً للحرج في بعض الأحيان(1)
أقول:
والبحث في جهات:
الاولى: في شراء شيء يسير من الصبي هو ملكٌ له، أو بيع شيء يسير منه يشتريه بماله، من دون إذن من الولي.
والثانية: أنْ يكون ذلك بإذن من الولي.
والثالثة: أنْ يكون أجيراً بإذن من الولي في البيع والشّراء للغير في الأشياء اليسيرة، أو يكون وكيلاً عن الغير بإذن من الولي في بيع أو شراء شيء يسير من أموال الموكّل.
أمّا في الجهة الاُولى، فلا شبهة في أنّ قوله تعالى (وَابْتَلُوا الْيَتامى…) يدلّ على محجوريّة الصبيّ في تصرّفاته وإنْ كان في ملكه، حتى في الأشياء اليسيرة.
وأمّا في الجهة الثانية والثالثة، فقد تقدّم عدم الدليل على المنع، ومقتضى العمومات والإطلاقات هو الجواز. وتوضيح ذلك: أنه قد ظهر سابقاً أنْ لا دليل تام في المسألة إلاّ الآية المباركة، وهي لا تدلّ على أكثر من عدم جواز تصرّفات الصبيّ في أمواله بالاستقلال، فلو تصرّف في أمواله لا بالاستقلال بل بإذن من وليّه، أو تصرّف لا في أمواله بل في مال غيره بإذن منه أو وكالةً عنه، فلا دليل على المنع عن ذلك.
نعم، يعتبر في كلّ ذلك أنْ تكون معاملته عقلائيّة، لأنّ العمومات من (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) ونحوه إمضائيّة، وهي لا تعمّ المعاملة غير العقلائيّة.
وأمّا بناءً على المشهور، فربما يقال بأنّ مقتضى النّظام الإجتماعي أنْ يقوم كلّ فرد بما ينبغي أنْ يقوم به، ولا يهمل أحدٌ ولا يكون عاطلاً عن العمل، وعليه، فإنّ البالغين يقومون بالامور المتعلّقة بهم، فلو اختصّ بهم القيام بالأعمال اليسيرة الممكن صدورها من غيرهم، لزم وقوعهم في الحرج وتعطيل الصّبيان عن العمل، ولعلّ هذا وجه نظر المحدّث الكاشاني.
أو أن مراده: إنه لمّا كانت العادة جاريةً على بيع وشراء الأشياء اليسيرة من الصّبيان، فإنّ الفتوى ببطلان معاملاتهم فيها موجبة للحرج على الناس لاحتياجهم إلى تلك الأشياء.
وأمّا استدلال أحمد بن حنبل للجواز بفعل أبي الدرداء ـ لكونه من الصّحابة، وهم يقولون بحجيّة قول الصحابي وفعله والعياذ بالله ـ وجواب العلاّمة عن ذلك، فقد تقدّم ذكره.
وقال صاحب المقابس بعد نقل كلام العلاّمة: والأولى أنْ يجاب بما ذكره أوّلا وبعدم ثبوت النقل واحتمال الإستيذان من الولي وتسليم الثمن إليه، أو إرادة الصبّي في العرف وإنْ كان بالغاً في الشرع، ولا عموم في حكاية القضّية.(2)
وعلى الجملة، فإن الاستدلال بفعل أبي الدرداء باطل، كبرىً وصغرىً.
وأمّا أصحابنا، فقد ذكروا للجواز أربعة وجوه:
الأول: ما تقدّم عن المفاتيح، مع تقريب له منّا.
والثاني: ما في المقابس عن كاشف الغطاء مستدلاّ بتداوله في الأمصار والأعصار السّابقة واللاّحقة من غيرنكير بحيث يعدّ مثله إجماعاً من المسلمين كافّة. قال: لكن ينبغي تخصيصه بما هو المعتاد في أمثال هذه الأزمنة.(3)
والثالث: ما في المقابس(4) أيضاً من أنه يمكن أن يستأنس لذلك ـ مضافاً إلى السّيرة المستمرّة وقضاء الحاجة والضّرورة في كلٍّ من المعاملة ودفع العوض وأخذه منه بما رواه الشيخ في الموثق عن عبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبدالله عليه السّلام عن شهادة الصبي والمملوك؟
فقال: على قدرها يوم اُشهد، تجوز في الأمر الدون ولا تجوز في الأمر الكبير.(5)
وعنه: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الذي يشهد على الشئ وهو صغير قد رآه ثم صغره ثم قام به بعد ما كبر.
فقال: تجعل شهادته نحواً من شهادة هؤلاء(6).
قال: وقريب منه موثقة ابن أبي يعفور…(7)
قال: فإذا شرّع الفرق في الشهادة، فلا يبعد في المعاملة التي…
والرابع: رواية السكوني، التي ذكرها الشيخ أيضاً:
عن أبي عبدالله عليه السّلام قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله… عن كسب الغلام الصغير الذي لايحسن صناعةً بيده، فإنه إنْ لم يجد يسرق(8)
وفي هذه الرواية قد نهى النبي صلّى الله عليه وآله عن كسب الغلام الصغير، فما وجه الاستدلال بها للجواز؟
قال شيخنا الاستاذ رضوان الله عليه: إن النهي هنا تنزيهي،(9) فالرواية دالّة على الكراهة. وقد سبقه المحدّث الكاشاني إلى ذلك.
وقال الاستاذ: لو كانت المعاملة باطلة لم يقل «لأنه إن لم يجد سرق».
وتوضيحه: إنه مع عدم المقتضي للصحّة لا وجه للتمسّك بالمانع، فالتمسّك بالمانع يكشف عن وجود المقتضي، فيحمل النهي على الكراهة، لا سيّما وأنه في سياق النهي عن كسب الإماء الجائز بالضرورة على كراهة.
أقول:
أمّا الوجه الأوّل ففيه: إن الحرج إنما يرفع التكليف عن مورده، فهو مرتفع في كلّ مورد يكون متعلّقّه حرجيّاً للفرد المكلّف، لأن التّكليف إنما يتوجّه إلى الفرد والنوع لا تكليف له حتى يرتفع بالحرج النوعي.
وأمّا الوجه الثاني، فقد أجاب عنه صاحب المقابس بقوله:
وأمّا السيرة والضرورة، فالتمسّك بهما في مقابل الآية والرواية وفتوى الإماميّة وغيرهم من العامّة، خروج عن جادّة الصواب وعدول عن طريقة الاحتياط. ويمكن التخلّص عن المشقّة والحرج بما يأتي عن قريب.
ثم قال: قلت: المتداول فيما بينهم ذلك في المعاطاة خاصّةً دون الصّيغة، وفي الأشياء اليسيرة دون الخطيرة، في صورة تعيين الكيفيّة وقد يتّفق في غيرذلك، إلاّ أنّ الغالب الذي يمكن فيه استنباط الإجماع ما ذكر فيقتصر عليه، ولمّا كان بناء المعاطاة على المراضاة كيف اتفقت… وكان الغالب في الأشياء التي يعتمد فيها على قول الصبيّ تعيين القيمة… فالاعتماد في الحقيقة على الإذن المستفاد من حال المالك في الأخذ والإعطاء…(10)
وما أفاده متين جدّاً.
وأمّا الوجه الثالث، ففيه: إنّ الانتقال ـ بتنقيح المناط ـ من شهادة الصبيّ في الأشياء اليسيرة إلى تصرّفه بالاستقلال في ماله اليسير، ممنوع جدّاً، لدلالة الآية على عدم جواز تصرّفه في أمواله بالاستقلال مطلقاً، كما تقدم. نعم، يتم ذلك في تصرّفاته فيها مع إذن الولي وفي تصرّفاته في أموال الغير مع إجازته أو وكالته، ولعلّ السّيرة قائمة عليه أيضاً.
وأمّا الوجه الرابع، ففي النهي عن كسب الغلام ثلاثة احتمالات:
أحدها: أنْ يكون النهي متوجّهاً إلى الغلام نفسه، بأنْ يكون منهيّاً عن الاكتساب.
والثاني: أنْ يكون متوجّهاً إلى الولي، بأنْ يكون النبيّ صلّى الله عليه وآله قد نهى الولي عن أنْ يورد الغلام غير البالغ في أعمال الكسب، لأنه يمكن أنْ يسرق أموال الناس إنْ لم يجد.
والثالث: أنْ يكون متوجّهاً إلى المكلّفين، أيْ: نها هم النبىّ عن أن يأخذوا من الغلام ما اكتسبه وحصل بيده، لجواز كونه سرقةً. وقد اختار الشيخ هذا الوجه.
وفي قوله: «لأنه إنْ لم يجد سرق»، احتمالان:
أحدهما: أنْ لا يجد ما يكتسب به، بأنْ لم يستأجره أو لم يستخدمه أحدٌ للعمل، فإنّه يبادر إلى السّرقة.
والآخر: أنْ لا ينتفع ولا يربح في الكسب الذي هو مشغولٌ به، فيبادر إلى السّرقة.
والأوّل هو الظاهر.
وقوله عليه السّلام: «الذي لا يحسن صناعةً بيده» بمثابة الشرط، من قبيل: «المكلّف المسافر يقصّر» ويفيد الحصر، بأنْ يكون الحكم منحصراً بالغلام الذي هذا حاله، كما أن قصر الصّلاة حكم المكلّف الذي في حال السفر.
هذا ما يتعلّق بفقه الحديث.
وأمّا كيفيّة الاستدلال، فإن كان «الكسب» بالمعنى المصدري ـ كما في الاحتمالين الأوّلين ـ فالنهي ليس تحريميّاً ليدلّ على الفساد، وإنما هو تنزيهي، والكراهة دائماً تناسب الجواز الوضعي، وذلك:
أوّلاً: لأنّ هذا النهي في سياق النهي عن كسب الإماء، وهو مكروه وليس بحرام.
وثانياً: إنّ نواهي رسول الله صلّى الله عليه وآله كثيرة، والغالب عليها الكراهة، واستعماله فيها شائع جدّاً.
وثالثاً ـ وهو العمدة ـ إنه لو كانت معاملة الصبيّ فاسدة ولا مقتضي فيها للصحّة، لم يكن للتمسّك بالمانع وجه، وقوله عليه السّلام: «فإنه إنْ لم يجد سرق» بيانٌ للمانع، فذكر المانع يدلّ على وجود المقتضي للصحّة. وأيضاً، فإنّ ظاهر هذا التعليل هو الكسب البدني، كأنْ يكون أجيراً، وأمّا في غيره كأنْ يسلّم إليه المال لأنْ يبيعه، فلا دلالة على الفساد.
ورابعاً: مقتضى قوله عليه السّلام: «الذي لا يحسن صناعةً بيده» التفصيل بينه وبين الذي يحسن، ولو كانت معاملة الصبي في حدّ ذاتها فاسدة لم يفرّق بين من يحسن ومن لا يحسن. نعم، الذي ينهى عنه هو معاملة الذي «لا يحسن» نهياً تنزيهيّاً.
وإنْ كان «الكسب» بمعنى المكتسب، كما احتمل الشيخ قائلاً: «محمول على عوض كسبه، من التقاط أو اُجرة عن إجارة أوقعها الولي أو الصبي بغير إذن الولي أو عن عمل اُمر به من دون إجازة فأعطاه المستأجر أو الآمر اجرة المثل، فإن هذه كلّها ممّا يملكه الصبيّ…» فمع التسليم بذلك وغضّ النظر عمّا تقدّم منه من عدم الاعتبار بقبض الصبيّ وإقباضه. يكون معنى الحديث: الاجتناب عمّا اكتسبه الصبيّ، لإمكان كونه سرقة، فاحتمال كونه سرقةً هو المنشأ للنّهي.
ولكنّ القول ببطلان معاملة الصبيّ مطلقٌ، أي: يحرم تملك ما بيده، سواء احتمل السّرقة أوْ لا، ولزوم لغويّة هذا التعليل قرينة على عدم كون النهي تحريميّاً، فما لم يحتمل فيه السّرقة صحيح، وما احتمل فيه فالاجتناب راجح.
والحاصل: دلالة الحديث على الكراهة مطلقاً، سواء كان كسبه من المحقّرات أو من غيرها، ومن قال باختصاص النهي بالمحقّرات احتاج إلى مقيّد من إجماع أو غيره.
(1) مفاتيح الشرائع 3/46.
(2ـ3) مقابس الأنوار: 113.
(5) وسائل الشيعة 27 / 344 كتاب الشهادات، الباب 22 رقم: 5 .
(6) وسائل الشيعة 27 / 343 كتاب الشهادات، الباب 21 رقم: 3.
(7) وسائل الشيعة 27 / 347 كتاب الشهادات، الباب 23 رقم: 8 .
(8) وسائل الشيعة 17 / 163 كتاب التجارة، الباب 33 رقم: 1.
(9) حاشية كتاب المكاسب 2 / 25.
(10) مقابس الأنوار: 113.