في وجه دعوى الأولويّة
أمّا الأمر الأوّل:
فقد ذكر الفقهاء القائلون بالأولويّة وجهين:
أحدهما: النكاح تمليك للبضع، والبيع تمليك للمال، والبضع أهمّ من المال، فإذا صحّ فيه عقد الفضولي، كان في البيع صحيحاً بالأولويّة.
هذا، ولا يجوز أنْ ينسب إليهم القول بملكيّة البضع على وجه الحقيقة، إذ لا إشكال في عدم التمليك الحقيقي للبضع في النكاح، وأنّ المهر إنما يدفع إلى المرأة في مقابل الزوجيّة، وليس عوضاً عن البضع، غير أنّ من آثار الزوجيّة هو التسلّط على البضع والإنتفاع به، فهم يريدون من «تمليك البضع» معنى «التسليط»، فإذا جرى في التسليط على البضع حكم، جرى في سائر العقود بالأولويّة.
إلاّ أنّ دعوى الأولويّة بهذا الوجه مندفعة:
أوّلاً: بالنقض بالإجارة، حيث أن المالك الموجر مسلّطٌ للمستأجر على منافع داره، ولكنْ لا يصح القول بأن الحكم الذي يجري في الإجارة أولى بأنْ يثبت في تمليك الدار مثلاً.
وثانياً: قد تقدّم أنّ التعدّي يتوقّف على إحراز الملاك، فلو اُحرز أنّ أهميّة المسبّب أي التسليط على البضع ـ بما هو مسبّب ـ هو الملاك لأنْ يجري حكم الفضولي في النكاح، صحّ التعدّي إلى المال وجرى الحكم فيه بالأولويّة، أمّا إذا كانت التوسعة في السّبب خاصّةً بمورد التسليط على البضع، لم يجز التعدّي أصلاً.
إذن، فرق بين عليّة الشيء للحكم وبين مورديّتّه له، والذي عندنا هو مورديّة النكاح لجريان الفضوليّة فيه، ولم نحرز أن للتسليط على البضع عليّةً حتى يقال: إذا ثبت شيء لعليّة السّلطنة على البضع، فثبوته بطريق أولى بالسّلطنة على المال.
الوجه الثاني: ما ورد في النصوص من شدّة الاهتمام بأمر النكاح، كصحيحة الحدّاد قال: قلت لأبي عبدالله عليه السّلام: رجل من مواليك يقرؤك السّلام وقد أراد أن يتزوّج امرأةً، وقد وافقته وأعجبه بعض شأنها، وقد كان له زوج فطلّقها على غيرالسنّة، وقد كره أن يقدم على تزويجها حتى يستأمرك فتكون أنت تأمره.
فقال أبو عبدالله عليه السلام: هو الفرج وأمر الفرج شديد، ومنه يكون الولد، ونحن نحتاط، فلا يتزوّجها.(1)
وعن مسعدة بن زياد عن جعفر عن آبائه: إن النبيّ صلى الله عليه وآله قال:
لا تجامعوا في النكاح على الشبهة…(2)
وعن العلاء بن سيّابة عن أبي عبدالله عليه السّلام في حديث، قال:
إن النكاح أحرى وأحرى أن يحتاط فيه…(3)
إلى غير ذلك.
فإذا ثبت حكم في النكاح ثبت في البيع بالأولويّة.
فنقول:
إن موارد الفرق بين النكاح والبيع من حيث التوسعة والتضييق في الأحكام عديدة، فالمعاطاة جارية في البيع وغير جارية في النكاح، والبيع الموقّت غير مشروع على المشهور، ولكنّ النكاح الموقت مشروع بالإجماع، والنكاح الغرري صحيح، أمّا البيع الغرري فباطل، والخيار والإقالة جاريان في البيع، وغير جاريين في النكاح…
وهذه الاختلافات بين النكاح والبيع وغيره من العقود، كاشفة عن وجود ملاكات للأحكام مجهولة عندنا، وقد تقدّم أنّ التعدّي يتوقف على إحراز الملاك، ولولاه فلا يجوز.
فظهر: عدم جواز التعدّي، لا من باب أنّ النكاح تمليك للبضع والبيع تمليك للمال، والبضع أهم، فإذا جرى الفضولي فيه جرى في غيره بالأولويّة، ولا بالنظر إلى النصوص الواردة في شدّة اهتمام الشارع بالنكاح.
ولكنْ يمكن أن يقال بذلك ـ خلافاً لبعض الأكابر ـ من جهة الفرق بين المقتضيات والشرائط، أمّا في المقتضيات، فما لم يحرز الملاك لم يجز التعدّي، كمسألة المعاطاة وجريانها في البيع دون النكاح، ومسألة التوقيت في النكاح وعدم جريانه في البيع. وأمّا الشرائط، فقد يتمّ التعدّي فيها، فالتراضي بين المتعاملين شرط في النكاح والبيع معاً، ولمّا كان الرّضا المتأخّر في النكاح ـ على أهميّته ـ مؤثّراً، جاز التعدّي منه إلى البيع، والقول بكفايته فيه بالأولويّة.
ولعلّ هذا مراد المستدلّين بالأولويّة.
(1) وسائل الشيعة 20 / 258 كتاب النكاح، أبواب مقدمات النكاح، الباب 157 رقم: 1.
(2) وسائل الشيعة 20 / 258، كتاب النكاح، الباب 157 رقم: 2.
(3) وسائل الشيعة 20 / 259. وقد تقدّم نصّه الكامل قريباً.