شرحه
إذا عرفت هذه الامور نقول:
إن صاحب المقابس يشترط في البيع أمرين:
أحدهما: تعيين المالكين، فلو كان وكيلاً أو وليّاً عن اثنين في بيع واحد، وجب أن يعيّن من يقع له البيع أو الشراء من نفسه أو غيره.
والآخر: أن يميّز البائع من المشتري إذا أمكن الوصفان في كلٍّ منهما، كما لو كان عند كلٍّ من الموكّلين منٌ من الحنطة، فوكّلاه في أن يبيع مالهما، فقال: بعت منّاً من الحنطة بمنٍّ من الحنطة، وكذا لو وكّلاه بنحو الإطلاق، بأنْ يبيع لهما أو يشتري العين الخارجيّة أو في الذمّة، فيقول: بعت حنطةً في ذمّة أحد موكّليّ بدراهم في ذمّة موكّلي الآخر.
واستدلّ على الإشتراط: بأنه لولا ذلك لزم بقاء الملك بلا مالك معيّن في نفس الأمر، وأنْ لا يحصل الجزم بشيء من العقود التي لم يتعيّن فيها العوضان، ولا بشيء من الأحكام والآثار المترتبة على ذلك. وفساد ذلك ظاهر.
فأشكل السيّد بأن: وجه الاستدلال واحد لا اثنان(1).
والظّاهر المغايرة بين لزوم بقاء الملك بلا مالك، وعدم حصول الجزم بشيء من العقود والأحكام، فلو باع متاعاً كليّاً في ذمّة أحد الموكّلين بلا تعيين، يلزم أنْ يكون الملك بلا مالك، ولو باع متاعاً خارجيّاً بأنْ أخرجه عن ملكه بلا تعيين للمشتري، كان ملكاً بلا مالك، ولو لم يضف الكلّي إلى ذمّة لم يعقل الجزم لعدم الماليّة بل الملكيّة كما قيل.
وحاصل كلام صاحب المقابيس: إنه يعتبر تعيين المالك في النيّة، هذا ثبوتاً، وأمّا إثباتاً، فإمّا يتلفّظ بذلك وإمّا يكون التعيين بإنصراف الإطلاق، فقوله «بعت» أي هو البائع بالأصالة، وقوله «بعتك» ينصرف إلى المخاطب.
ثم ذكر إنه لولم يعيّن المالك في عالم الثبوت تلزم ثلاثة محاذير:
الأول: بقاء الملك بلا مالك.
والثاني: عدم تحقق الجزم بالعوضين.
والثالث: لزوم الإبهام، ولا دليل على صحة العقد المبهم، لانصراف الأدلّة إلى الشائع المعهود.
وإني أذكر أربعة أمثلة، ثم أتعرّض للمثال الذي أفاده رحمه الله:
لو قال: بعت هذا المال بعشرة دراهم، من دون إضافة الدراهم إلى ذمّة، فهذا تمليك بلا مالك، والملك بلا مالك غير معقول، لما تقدّم.
ولو قال: بعت الحنطة بدراهمك العشرة. كان غيرمعقول كذلك، لأنّ الحنطة غير مضافة فلا جزم بالعوضيّة.
ولو قال وهو وكيل عن جماعة: بعت لموكّلي كذا بكذا، لم يصح كذلك، لعدم تعيّن الموكّل، وقد تقدّم أنّ الإبهام مبطلٌ للعقد.
ولو قال وهو وكيل عن اثنين في البيع والشراء: بعت حنطة موكّلي بحنطة موكّلي، بطل، لعدم تميّز البائع عن المشتري.
قال صاحب المقابيس:
وعلى هذا، فلو شرى الفضولي لغيره في الذمّة، فإنْ عيّن ذلك الغير، تعيّن ووقف على إجازته، سواء تلفّظ بذلك أم نواه.
أي: فهو صحيح، لأنّ المفروض تعيّن كلّ ما يعتبر تعيّنه في العقد، غير أنّه وقع فضولةً، فيتوقف على إجازة المشترى له.
قال: وإنْ أبهم مع قصد الغير بطل…
كأن يقول: إشتريت هذا المتاع بكذا لغيري، من غير تعيين له لا ثبوتاً ولا إثباتاً. ووجه البطلان: عدم تعيّن أحد المالكين، ولا يوقف إلى أنْ يوجد له مجيز، لاعتبار التعيين بحسب النيّة في حين العقد.
قال: وجميع ما ذكر… وأمّا إذا لم يتوقف التعيّن على التعيين…
أقول:
وهذا هو المثال الخامس، كأن يقول: «بعت هذا المتاع المعيّن الخارجي بهذه الدراهم العشرة» ففي هذه الصّورة: المالكان والعوضان متعيّنان في نفس الأمر، وامتياز البيع عن الشراء حاصل.
فهل يجب ـ بالإضافة إلى التعيّن ـ التعيين لفظاً، بأنْ يقول مثلا: بعت هذا المتاع الذي هو لزيد أو لنفسي، بهذه الدراهم التي هي لك، أو يأتي بالإطلاق المنصرف إليه؟
أو لا يجب مطلقاً؟
أو التفصيل بين التصريح بالخلاف، فيبطل، وعدمه فيصحّ؟
أوجه.
قال في المقابيس: أحوطها ـ لكن في نقل الشيخ: أقواها ـ الأخير، وأوسطها الوسط، وأشبهها للاصول الأوّل.
ولعلّ مراده من الشبه للاُصول: أن العقلاء لا يكتفون في المعاملات المتعارفة المعهودة بالتعيّن الواقعي، بل يصرّحون بالمالكين ويعيّنونهما لفظاً أو بالإطلاق المنصرف.
ووجه عدم الوجوب مطلقاً هو: إن البيع مبادلة مال بمال، وفي قوله: «بعت هذا المتاع بهذه الدراهم العشرة» قد تحقّقت المبادلة كذلك، ولايلزم من هذا القول محذور، من لزوم وجود المالك بلا مالك، أو عدم الجزم، أو الإبهام، فلا يلزم التعيين.
ووجه التفصيل: أنه يصحّ إنْ قال: «بعت هذا المتاع بهذه الدراهم» أمّا لو قال: «بعت هذا المتاع الذي هو لعمرو» مع كونه لزيد، فقد صرّح بخلاف الواقع، وحينئذ يبطل.
قال:
وفي حكم التعيين ما إذا عيّن المال بكونه في ذمّة زيد مثلاً.
وهذا واضح.
ثم ذكر على الأوسط فروعاً هي:
لو باع مال نفسه عن الغير، وقع عنه ولغى قصد كونه عن الغير.
وذلك: لأن المال لنفسه في نفس الأمر، والمفروض عدم وجوب تعيين المالك، فلو باعه وكالةً عن الغير وقع البيع عن نفسه، لتحقق المبادلة، ولغى قصد كونه عن الغير.
ولو باع مالا هو لزيد في نفس الأمر وكالةً عن عمرو، فإنْ كان وكيلاً عن زيد في البيع صحّ عنه، وإنْ لم يكن وكيلاً عنه وقف على إجازته لكونه فضولاً.
ولو اشترى شيئاً معيّناً خارجيّاً لنفسه بدراهم في ذمّة زيد، فإنْ لم يكن وكيلاً عن زيد، وقع البيع عن نفسه وتعلّق المال بذمّته. وإنْ كان وكيلاً، فمقتضى الاشتراء لنفسه، أن يقع الشراء لنفسه ويكون هو المالك، ومقتضى كونه بدراهم في ذمّة زيد، أن يقع لزيد ويكون المالك، وكلّ من المقتضيين يمنع الآخر عن تأثيره، وإذا تمانعا تساقطا وبطلت المعاملة.
ويحتمل صحته عن نفسه، لأنّ المفروض أنه وكيلٌ في الشراء له، فلم يعمل بالوكالة بل وقع الشراء لنفسه، فكان المقتضي لوقوعه عنه بلا مزاحم.
ويحتمل صحته عن الموكّل، لتعيّن العوض في ذمّة الموكّل، فقصد كون الشراء لنفسه لغو، كما في المعيّن.
قال رحمه الله:
ولا فرق على الأوسط في الأحكام المذكورة بين النيّة المخالفة والتسمية.
ويفرّق بينهما على الأخير.
ويبطل الجميع على الأوّل.
هذا تمام كلام المقابس مع توضيحه.
(1) حاشية المكاسب 2 / 27.