دليل هذا الشرط
وقد استدلّ الشيخ لاعتبار الاختيار بوجوه، قال:
ويدلّ عليه ـ قبل الإجماع ـ قوله تعالى (إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراض)(1).
وقوله عليه السّلام: لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاّ عن طيب نفسه(2).
وقوله عليه وآله السلام: في الخبر المتفق عليه بين المسلمين: رفع ـ أو وضع
لشمول آية الحلّ وآية الوفاء بالعقود له، غير أنّ كونه مكرهاً عليه هو المانع للأدلّة الدالّة على ذلك.
ونتيجة ذلك: أنه لو أمكن المناقشة فيما يستدلّ به للمنع، كان مقتضى القاعدة هو القول بصحّة عقد المكره.
ويناقش: بأنَّ الإطلاقات والعمومات المذكورة منزّلةٌ على ما عليه العقلاء في معاملاتهم، لوضوح أنّ الأدلّة الواردة في أبواب المعاملات إمضائيّة وليست تأسيسّية، فهي مقيّدة بالسيّرة العقلائيّة القائمة على عدم ترتيب الأثر على عقد المكره، كما أنها مقيّدة بالحديث المعمول به عن رسول الله صلّى الله عليه وآله من أن «الناس مسلّطون على أموالهم».
ـ عن اُمتي تسعة أشياء ـ أو ستة ـ ومنها: ما اكرهوا عليه(3). وظاهره وإنْ كان رفع المؤاخذة إلاّ أن استشهاد الإمام… ]1[.
]1[ لم يتعرّض السيّد الجدّ لكيفيّة الاستدلال بهذه الأدلّة، وهذا شرح ذلك بنحو الإجمال:
أمّا الإجماع، فقد قدّم عليه الشيخ الآية والرواية، ولعلّه للتنبيه على عدم كونه الإجماع الحجّة الكاشف عن رأي المعصوم عليه السلام.
وأمّا الآية، فتقريب الاستدلال بها: أنّ «الباء» سببيّة، والاستثناء محمولّ على الاتّصال لأنه الأصل، فيكون التقدير: يا أيها الذين آمنوا لاتأكلوا أموالكم بينكم بسبب من الأسباب، فإنه باطل إلاّ أن تكون تجارةً عن تراض منكم.
وعقد المكره ليس بتجارة عن تراض، فهو باطل.
فإن قيل: إنه إذا كان الشّرط في صحة البيع هو الرّضا، فإن من يبيع شيئاً من باب الإضطرار ـ كأن يكون لدفع ضرر ـ فاقد للرّضا كذلك، والحال أن معاملته صحيحة بالاتفاق.
فالجواب: فرقٌ بين الإضطرار والإكراه، لأنه في حال الإكراه يكون مكرهاً على البيع نفسه، بخلاف حال الإضطرار، فإنّ العدوّ ـ مثلاً ـ يطالبه بالمبلغ الكذائي، وليس بمكره له على البيع.
وبالجملة، فإنه فرق بين «الإكراه» و «الكره».
فإن قيل: إنه إن كان المستثنى هو التجارة فقط، يلزم تخصيص الأكثر.
فالجواب: هذا إن كان التجارة هو خصوص البيع، وليس كذلك.
وأما حديث: لا يحلّ… ، فتقريب الاستدلال به، أن المعنى: لايحلّ لأحد أنّ يتملّك أو يتصرّف في مال المسلم إلاّ بطيب نفس منه.
ومن المعلوم أنّ المكره لاطيب نفس له، فلا يحلّ التصرّف في ماله المأخوذ منه، وإذا كان التصرّف في ذلك محرّماً، فالعاملة باطلة.
وأمّا حديث الرفع، فتقريب الاستدلال به هو: إنّ الرفع في هذا الحديث وإن كان ظاهراً في المؤاخذة الأخرويّة، إلاّ أن استشهاد الإمام عليه السّلام به في رفع بعض الأحكام الوضعيّة يشهد لعموم المؤاخذة فيه المطلق الإلزام بشئ:
ففي صحيحة البزنطي عن أبي الحسن عليه السّلام: في الرّجل يستكره على اليمين، فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك. أيلزمه ذلك؟
فقال عليه السلام: لا. قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: وضع عن اُمتي ما اُكرهوا عليه وما لم يطيقوا و ما أخطأوا.(4)
قال الشيخ: والحلف بالطلاق والعتاق وإنْ لم يكن صحيحاً عندنا من دون الإكراه أيضاً، إلاّ أن مجرّد استشهاد الإمام عليه السّلام في عدم وقوع آثار ما حلف به بوضع ما اُكرهوا عليه، يدلّ على أن المراد بالنبويّ ليس رفع خصوص المؤاخذة والعقاب الاخروي.
فإن قيل: إن الحلف على الطلاق والعتاق باطلٌ وإن كان لا عن إكراه ـ كما ذكر ـ لكنّ المانع عن تصريح الإمام عليه السلام بذلك والسبب في استدلاله بحديث الرفع، هو التقيّة. وإذا حملت الرواية على التقيّة لم يتم الاستدلال بحديث الرفع لرفع الأحكام الوضعيّة.(5)
فالجواب: إنّ التقيّة هي في تطبيق حديث الرفع على المورد، لا في بيان حكم المورد، وذلك لا يضرّ باستدلال الشيخ رحمه الله.
هذا، ولكنّ الميرزا رحمه الله قرّب الاستدلال وقصّر المسافة فقال:
وأمّا حديث الرّفع فبناءً على ما بيّنا مفاده في الأصول من أنّ الرفع رفع تشريعي ولايحتاج إلى التقدير، فدلالته على المقصود واضحة، ولايتوقّف التمسّك به على ضمّ استشهاد الإمام على رفع أثر الحلف بالطّلاق إذا كان الحالف مكرهاً، لما بيّنا من دلالته بنفسه مع قطع النّظر عن الخارج. وعلى ايّ حال، المناقشة في الأستشهاد بحمل نفس الأستشهاد على التقيّة غيرصحيحة لأنّ الظّاهر أنّ الأمام في استشهاده بحديث الرّفع بيّن الحكم الواقعي وإنّما اتّقى في تطبيق الحديث على المورد ففي بيان الكبرى لاتقيّة، فيدلّ الحديث على رفع الآثار الوضعية كرفع الأثار التكليفيّة في حال الأكراه.
ونظير المقام ورد عن الصّادق عليه السّلام في قوله ذاك إلى الأمام، إن صمت صمنا وإن أفطرت أفطرنا، فإنّ الظّاهر من هذا الحديث أنّه لم يتّق في ثبوت الهلال بحكم إمام المسلمين بل في تطبيق الإمامة على المنصور الّذي أمر الأمام بإفطار آخر يوم الصيام.
مضافاً إلى الأخبار الواردة في طلاق المكره(6). بضميمة عدم الفرق.
أقول:
هنا مقدّمات:
الإخبار والإنشاء عبارة عن استعمال اللّفظ في المعنى وإيجاده باللّفظ، فتارةً: يكون الاستعمال كذلك بداعي الحكاية عمّا في نفس الأمر، واخرى: بداعي الإنشاء. وبعبارة اخرى: قولنا «بعت» لفظ مشتمل على المادّة والهيئة، فالمادّة تدلّ على المعنى الحدثي، والهيئة تدلّ على إسناد المادّة إلى المتعلّق، فإنْ قصد من استعماله الحكاية صار خبراً، وإنْ قصد منه الإيجاد صار إنشاءً.
كما أنّ الإشكال عليه: بأن مقتضاه بطلان البيع عن إضطرار مع عدم إمكان الألتزام به، غير وارد. لأنّ الحديث حديث و رد في مقام الأمتنان، فلا امتنان في رفع أثر المعاملات الصادرة عن اضطرار. هذا مع أنّ الأضطرار إلى العاملة عبارة عمّا يكون نفس المعاملة اضطراريّة، وأمّا إذا كانت العاملة ممّا يدفع بها الأضطرار، فلا يدلّ الحديث على رفعها، كما أنّه لو كان الخطأ أو النسيان متعلقاً بأمر آخر غيرنفس المعاملة و صدرت المعاملة عن عمد وإلتفات، فهذه لاترتفع بالحديث.
وعلى أيّ حال، سواءقلنا برفع الآثار الوضعيّة أيضاً كرفع الأحكام التكليفيّة كما هو ظاهر استشهاد الأمام بالحديث أم لم نقل به، بأن يحمل نفس الأستشهاد على التقيّة، فعدم مضيّ المعاملة إذا كانت كراهيّة، لاإشكال فيه، لأن الأكراه موجب لفقد الرّضا، مع أنّ رفع الأثار الوضعيّة به في الجملة لا إشكال فيه. وتمام الكلام في الأصول.(7)
وأيضاً: فالإخبار والإنشاء تارةً يكونان بداعي الحقيقة، واخرى: بداعي التخيّل فيكونان مجازاً.
وأيضاً: الإخبار والإنشاء الحقيقيّان تارةً: يكونان عن رغبة وطيب نفس، واخرى: يكونان عن الإكراه، فهو يخبر عن الشّيء أو ينشؤه عن إكراه.
وبعد:
فإنّ الإكراه تارةً: يكون على نفس الشيء، كأنْ يقول: بعني وإلاّ قتلتك، واخرى: لا يكون على نفس الشيء، بل يكرهه على دفع مال إليه فيبيع داره كي يعطيه، حتى يدفع عن نفسه ما أوعد عليه من الضرر، وثالثةً: يبيع كتابه مثلاً ليشتري به طعاماً لعياله.
(1) سورة البقرة: 282.
(2) عوالي اللآلي 2 / 113 رقم: 309.
(3) وسائل الشيعة 15 / 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56 رقم: 1.
(4) وسائل الشيعة 23 / 220 كتاب الأيمان، الباب 12 رقم: 12.
(5) حاشية المكاسب للمحقق إلايرواني.
(6) وسائل الشيعة 22/86، الباب 37 من أبواب مقدمات الطلاق.
(7) منية الطالب 1 / 184.