تكميل
لقد كنت وعدت بذكر الفوائد المستخرجة من صحيحة أبي ولاّد، وقد حان وقت الوفاء بذلك، وهي اثنا عشر فائدة، وينبغي ضبطها جيّداً، لأنّي لم أجد أحداً من الأساطين تعرّض لها. فأقول:
1 ـ إنه إنْ تعدّدت الإنتفاعات من العين المستأجرة بحسب تعدّد المقاصد، وجب أنْ يتعدّد الكرى كذلك، وذلك قوله عليه السّلام: «أرى له عليك مثل كرى البغل…» ولم يقل: كرى البغل ذاهباً من الكوفة وعائداً إلى الكوفة.
2 ـ إنّ الواجب في هذا الفرض أجرة مثل العين المستأجرة، ولذا عبّر عليه السّلام بـ«المثل». فهذا هو الملاك لا ما يقوله الأجير ولا ما يقوله المالك.
3 ـ لو كان للعين منافع متضادّة، فهل المالك يملكها كلّها أو يملك الجامع فيما بينها أو يملك كلاًّ منها في ظرف عدم الآخر؟ قال في العروة(1): لو استأجر دابّةً لحمل متاع معيّن شخصي أو كلّي على وجه التقييد فحمّلها غير ذلك المتاع أو استعملها في الركوب، لزمه الاُجرة المسمّاة واجرة المثل لحمل المتاع الآخر أو للركوب. ودعوى: أنه ليس للدابّة في زمان واحد منفعتان متضادّتان… مدفوعة: بأنّ المستأجر بتفويته على نفسه واستعماله في غيرما يستحق كأنه حصل له منفعة اخرى.
والوجه في ذلك: كونه مالكاً لكلّ واحدة من المنافع على انفراده.
وقال الميرزا الاستاذ رحمه الله في تعليقته(2) بوجوب أعلى القيمتين من الاُجرة المسمّاة واُجرة المثل.
ووجه ذلك: أنّ المالك يملك الجامع بين المنافع، فلو جعله متخصّصاً بخصوصيّة في حيّز الإجارة، فإنْ كانت المنفعة الاخرى مساويةً مع هذه المنفعة في القيمة، فقد أخذ الاجرة المسمّاة، وإنْ كانت أدون، فقد حصل على الزائد بالعقد، وإنْ كانت أكثر قيمةً استحقّها لكونه مالكاً للجامع.
والتحقيق: أنّ كليهما ضعيف، لمنافاتهما للبرهان وللصّحيحة. أمّا البرهان، فقد ذكرنا في كتاب الإجارة(3): أن ركوب الدابة أو سكنى الدار، وأمثال ذلك، هي أفعال المستأجر ولا معنى لأنْ يقال بكونها ملكاً للمالك. وبعبارة اخرى: ليست هذه بمنافع للعين حتى يملكها المالك بل هي من عوارض المستأجر، وإنما المنفعة هي حيثيّة قابلية العين لأنْ ينتفع بها المستأجر، كأن تكون الدابة قابلةً للركوب أو حمل المتاع عليها، وأن تكون الدار قابلةً للسكنى فيها، وهكذا، والإجارة: تسليط المستأجر على العين لأنْ ينتفع بها. وعلى هذا، فلمّا سلّط المستأجر على الدابّة لأنْ ينتفع من الحيثيّة المتخصّصة بخصوصيّة الركوب ـ مثلاً ـ استحقّ الاُجرة في مقابل تلك الخصوصيّة، وأمّا سائر الخصوصيّات فباقية على ملك المالك، وليس له المطالبة بشيء في مقابلها، ولا معنى لأنْ يقال بملكيته للجامع.
وأما ما ذكره السيد، ففيه:
إن الملكيّة إنما تتعلّق بالأمر الممكن، واعتبار الملكيّة للممتنع وجوده غير معقول، ولذا لا يعقل اعتبار الملكيّة للمنافع المتضادّة بصورة الاجتماع، لامتناع اجتماعها، بل كلٌّ منها مملوكٌ للمالك في ظرف عدم الآخر، فهو مالك للركوب في ظرف عدم الحمل، وكذا العكس، كما لا يعقل أنْ تكون كلّ واحدة مملوكةً في عرض الاخرى.
وعلى هذا، فلو استأجر الدابّة للركوب مثلاً، امتنع الاستفادة منها للحمل، وإذا امتنعت الاستفادة امتنعت الاجرة المسمّاة، وإنما له اُجرة المثل بالنسبة إلى الحمل، لكون هذه المنفعة في ملك المالك. وهذا ما تدلّ عليه الصّحيحة، إذ لم يأمر الإمام بوجوب دفع الاُجرة المسمّاة إلى قصر بني هبيرة، وإنما أمره بدفع اجرة المثل إلى النيل، فقال: «عليك مثل كرى…».
4 ـ إنّ قول أبي حنيفة: «فضمن قيمة البغل وسقط الكرى…» مبنيّ على قاعدة «الخراج بالضمان»، لكن هذه القاعدة ـ على تقدير ثبوتها ـ لا تدلّ على ما ذكره، وقد نّص الإمام عليه السلام على بطلان فتواه، وقد تقدّم البحث عنها.
5 ـ الإفتاء بغير ما أنزل الله يوجب غضبه جلّ وعلا، والحرمان من بركات الأرض والسماء.
6 ـ إنّ ضمان الإتلاف جار في جميع الموارد، أمّا ضمان التلف فلا، فلو تلف الشيء عند المستأجر لم يضمن، وكذا المرتهن والوكيل. أمّا في الغاصب، فهو موجود كذلك، وذلك قول الإمام عليه السلام «نعم» في جواب السؤال: «أرأيت لو عطب…»
7 ـ الضمان الثابت هو ضمان القيمة، لا ضمان المثل كما عن جماعة من المتقدمين، أو يعتبر بقاء العين التالفة في عهدة الضّامن، كما عن جماعة من المتأخرين، فالقولان على خلاف ما في الصحيحة، ولذا كان المختار أنه يضمن القيمة السّوقية حين التلف.
المراد من القيمة عندنا: قيمة البغل حال كونها صحيحة ذات أوصاف موجبة لرقّي قيمتها، وقد استفدنا ذلك من قوله عليه السلام: «قيمة بغل يوم خالفته»، فهو ضامن لتلك الأوصاف الدخيلة في القيمة، خلافاً للشيخ إذ حمل الرواية على يوم المخالفة وإنْ رجع عن ذلك.
8 ـ إنه ليس للغاصب شيء على المالك في مقابل ما أنفقه على العين المغصوبة، ولذا لمّا قال «فلي عليه علفه؟ قال عليه السلام: لا، لأنك غاصب» وليس الأمر في الإجارة والرّهن كذلك، وكأنّ أبا ولاّد قد قاس الغصب على الرهن، لأنه كان قد سأل الإمام عليه السلام: «عن الرجل يأخذ الدابّة والبعير رهناً بماله، أله أن يركبه؟ قال عليه السّلام: إن كان يعلفه فله أنْ يركبه، وإن كان الذي رهنه عنده يعلفه فليس له أنْ يركبه.(4)
9 ـ إنّ عليه الأرش يوم الردّ، وقد دلّ عليه قوله عليه السلام «يوم تردّه».
10 ـ الميزان في الترافع حول الأرش الحلف أو البيّنة. قال عليه السلام: «إمّا أنْ يحلف… أو يأتي صاحب البغل بشهود…» بأنْ يكون الحلف على الغاصب وإقامة البيّنة على المالك، أو أنّ الغاصب مخيّر بين الحلف وإقامتها.
11 ـ إن كان تحليل المالك الغاصب عن علم ورضا واختيار، فلا شيء على الغاصب، وأمّا إنْ كان لا عن اختيار ورغبة، فالضمان على حاله، ولذا لمّا قال أبو ولاّد: «إني أعطيته دراهم ورضي بها وحلّلني» قال عليه السّلام: «إنما رضي فأحلّك حين قضى عليه أبوحنيفة بالجور والظلم. ولكنْ ارجع إليه…».
وبعبارة اخرى: كلّ قضيّة حقيقيّة فالحكم فيها يدور مدار الموضوع حقيقةً، فلو قال أكرم كلّ عالم، فأكرم زيد بتوهّم أنه عالم ثم انكشف كونه جاهلاً، لم يتحقّق الامتثال. بخلاف القضايا الخارجيّة الشخصيّة، فالعناوين فيها نوعاً دواعي ولا أثر لتخلّف الداعي، ولذا لو أذن له بأكل طعامه بتوهّم كونه رحماً له، فأكل وتبيّن العدم، لم يكن الآكل ضامناً للطعام.
وهناك قسمٌ ثالث من القضايا، وهي القضيّة الخارجيّة التي اُخذ فيها عنوان الموضوع بمثابة القضيّة الحقيقيّة، فهنا يكون ضامناً كذلك، وما نحن فيه من هذا القبيل.
12 ـ إنّ الإبراء من الإيقاعات لا العقود، قال عليه السلام: «فإنْ جعلك في حلّ بعد معرفته فلا شيء عليك بعد ذلك.»
انتهى البحث عن صحيحة أبي ولاّد.
(1) العروة الوثقى 5/87.
(2) حاشية العروة للميرزا 5/78.
(3) درّس السيد الجد قدّس سرّه كتاب الإجارة في الحوزة العلمية بمدينة مشهد المقدّسة.
(4) وسائل الشيعة 18 / 397، كتاب الرهن، الباب 12 رقم 1.