تأييد وقوع البيع برواية: إنه لم يعص الله
قال الشيخ:
ويؤيّد المختار بل يدل عليه: ما ورد في صحّة نكاح العبد الواقع بغير إذن المولى إذا أجازه، معلّلاً بـ«إنه لم يعص الله تعالى وإنما عصى سيّده، فإذا أجاز جاز…
أقول:
نصّ الرّواية عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده.
فقال: ذاك إلى سيّده، إنْ شاء أجازه وإنْ شاء فرّق بينهما.
قلت: أصلحك الله، إنّ الحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون: إنّ أصل النكاح فاسد ولا تحلّ إجازة السيّد له.
فقال أبو جعفر عليه السّلام: إنه لم يعص الله وإنّما عصى سيّده. فإذا أجازه فهو له جائز(1)
ويفسّرها ما عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام:
قال: سألته عن رجل تزوّج عبده بغير إذنه فدخل بها، ثمّ اطّلع على ذلك مولاه؟ قال: ذاك لمولاه إن شاء فرّق بينهما، وإن شاء أجاز نكاحهما، فإن فرّق بينهما فللمرأة ما أصدقها، إلاّ أن يكون اعتدى فأصدقها صداقاً كثيراً، وإن أجاز نكاحه فهما على نكاحهما الأوّل. فقلت لأبي جعفر عليه السلام: فإنّ أصل النكاح كان عاصياً، فقال أبو جعفر عليه السلام: إنّما أتى شيئاً حلالا وليس بعاص لله، إنّما عصى سيّده ولم يعص الله، إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم الله عليه من نكاح في عدّة وأشباهه.(2)
وذكر الميرزا القمّي ترك الاستفصال في ما يدلّ على العموم، فقال:
ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقال، نقله في التمهيد عن جماعة من المحققين.(3)
وفيما نحن فيه، السّؤال عن تزوّج العبد، وهو قد يكون بعقد العبد على نفسه، وقد يكون بعقد الغير له وكالةً أو فضولةً. فأجاب الإمام عليه السّلام بأنه إذا أجاز سيّده جاز، ويستكشف منه صحّة نكاحه على نفسه وأنّ إنشائه مؤثر وليس بلغو. ثم من ترك الإمام الإستفصال يفهم عدم انحصار الإجازة بما لو عقد له غيره، بل يشمل ما إذا عقد هو لنفسه، فإذا كانت الإجازة مؤثرة في عقده لنفسه، حيث أن الإنشاء منه ومضمون العقد له، كانت مؤثّرة في عقد الغير له ـ حيث الإنشاء من غيره ـ بالأولويّة.
وإذا ثبت هذا في النكاح، فهو ثابت في غيره من العقود.
وهذا توضيح تقريب الاستدلال بالرّواية.
وقد أشكل الميرزا الاستاذ على الأولويّة المزبورة:
بأن ترك الإستفصال وإن كان مفيداً للتعميم في باب النكاح ونحوه، إلاّ أنّه للتعدي إلى غير مورده لايفيد، لأنه لو فرض بأنه صرّح بأنّ نكاح العبد يصحّ بالإجازة ولو باشره بنفسه، لما أمكن التعدي إلى مورد وكالة العبد لغيره أو إجرائه الصيغة وإيجاده العلقة فضولاً. لأن صحّة نكاحه لنفسه وإن استلزم تصحيح جهة إصداره أيضاً، حيث أنّ الإجازة يرجع إلى ما يتعلّق مضمونه بالمولى، فصحّة جهة إصداره إنّما لوحظ معنى حرفياً إذا دلّ الدّليل على صحّة النّتيجة بالإجازة، فيدل على صحّة جهة الإصدار، لأنّها من مقدمات حصول النتيجة. إلاّ أنّ هذا الدّليل لايمكن أن يدل على صحّة جهة الإصدار إذا لوحظت معنى اسميّاً، وعقد العبد لغيره فضولا أو وكالة جهة توقّفه على إجازة المولى هو جهة إصداره، وإلاّ فمضمونه غيرراجع إلى المولى، ولم يدلّ دليل على أنّ الإجازة أيضاً كالإذن في جهة الإصدار كما لعلّه لا يخفى.
أقول:
هذه الشبهة إنّما تتوجّه بالنظر إلى الرواية: «إن شاء فرّق بينهما وإن شاء أجاز نكاحهما». أمّا في الرواية الأولى فيقول عليه السلام: «ذاك إلى سيّده إنْ شاء أجازه» أي: أجاز تزوّجه، والتزوّج هو الإنشاء، وهو السّبب، فيكون مؤثراً بالإجازة اللاّحقة.
إلاّ أنّ الميرزا أجاب بوجه آخر فقال: إلاّ أنْ يقال: إن الأخبار الدالّة على صحّة نكاح العبد إذا أجازه المولى، الواردة في ردّ حكم الحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي، ظاهرة في إعطاء قاعدة كليّة وهي: إن كلّ ما رجع جهة الصحّة إلى إذن السيّد فإجازته كإذنه.(4)
قال الشيخ:
مع أنّ تعليل الصحّة بأنه: لم يعص الله تعالى… في قوّة أن يقال: إنه إذا عصى الله بعقد، كالعقد على ما حرّم الله تعالى… كان العقد باطلاً… أمّا إذا لم يعص الله وعصى سيّده، أمكن رضا سيّده فيما بعد…
أي: إذا كان العقد محرّماً بالذات، كنكاح المحارم أو كالعقد الواقع في العدّة… فإنه يكون باطلاً والله لا يرضى به، أمّا العبد، فلم يرتكب المحرّم بالذات، فلم يعص الله وإنما عصى سيّده. وهذه العلّة المذكورة في الرّواية تعمّم الحكم إلى سائر الموارد، فلا يختصّ الحكم بالنكاح، بل يعمّ البيع وغيره من العقود، فلو باع بدون إذن من سيّده ـ وكان بيعه ممّا لم ينه عنه الشارع ـ كان عاصياً للسيّد. فسواء كان رضاه شرطاً للصحّة أو كان عدم رضاه مانعاً، يكون رضاه موجباً للصحّة.
وقد أخذ الميرزا الاستاذ هذا البيان من الشيخ، وجعله الجواب عن الإشكال في الأولويّة…
والحاصل: إنه لو أنشأ عقد النكاح لنفسه، أو أنشأْ هو لغيره وكالةً عنه، أو أنشأ الغير له بتوكيل منه، فمقتضى الصحيحة في جميع هذه الصّور أنه لو رضي السيّد بذلك فيما بعد صحّ، لأن المنساق من الرّواية إعطاء قاعدة كليّة مفادها الفرق بين معصية الله فيقع باطلاً، ومعصية السيّد فيكون صحيحاً إذا رضي به سيّده. وإذا صحّ ذلك في النكاح صحّ في غيره من العقود كالبيع.
وقال صاحب الجواهر ما حاصله(5):
إنه لا حاجة لإجازة المالك ولا موضوع لهذا البحث فيما إذا أنشأ العبد البيع للغير، لأنه إن كانت الحاجة إليها من جهة أن إنشائه تصرّف في ملك السيّد، فكان منهيّاً عنه لحرمة التصرّف في ملك الغير، فإنّ النهي في المعاملة لا يوجب الفساد، خصوصاً النهي الناشئ عن معصية السيّد، وإنْ كانت الحاجة لتصحيح مضمون العقد وهو ملكيّة الغير للشيء، فإنّ مضمون العقد لا ربط له بالسيّد المالك حتّى تؤثر إجازته في صحّته.
بل إنّ هذه المعاملة صحيحة حتّى مع نهي السيّد عنها، فلا مجال للشكّ في صحّتها إن وقعت من دون إجازة منه، بل صحّتها في هذه الصّورة ثابتة بالأولويّة.
فأجاب الشّيخ:
بأنّ الروايات ناطقة بأنّ الصحّة من جهة ارتفاع كراهة المولى وتبدّلها بالرضا، فهي دالّة على أن رضا المولى شرط. فالقول بأنّ الروايات تدلّ على أنّ معصية السيّد لا تقدح بصحّة العقد، في غير محلّه.
وأفاد: بأن مفاد تلك النّصوص في إناطتها صحّة عقد العبد بإجازة السيّد هو عدم استقلال العبد في تصرّفاته مطلقاً، فلا فرق بين أنْ يكون عقده لنفسه أو لغيره.
أقول:
تقريب كلام صاحب الجواهر هو:
إنّ مدلول النصوص هو أن لعقد العبد صحّة تأهليّة من حيث السببيّة لوقوع المضمون، غير أنّ ترتيب المسبّب بالإجازة للعقد وعدم ترتيبه بعدمها، فإذا كان العقد للغير لم يكن لمضمونه ربطٌ بالمالك، كما لا ربط له بالعبد. وحينئذ، لا يكون العقد الواقع كذلك مشمولاً للنصوص، لكونها ظاهرة في العقد لنفسه، وأنّ المولى إن شاء فرّق بينهما وإنْ شاء أجاز، وحينئذ، تؤثر الصحة التأهليّة أثرها ويصح العقد.
هذا بالنسبة إلى الروايات.
وأمّا الآية المباركة، فقد تقدّم منّا عدم دلالتها على عدم صحّة عقد العبد إنْ كان لغيره. وبعبارة اخرى: لا دلالة لها على البطلان في غير العقد لنفسه، وخلاصة ما قلناه هو: إن عدم قدرة العبد على شيء متفرّع على كونه مملوكاً، وحينئذ، يكون عدم نفوذ عقده في خصوص ما يرتبط بمملوكيّته، وهو ما إذا كان العقد لنفسه فقط.
وأمّا ما ذكره صاحب الجواهر رحمه الله من أنّ العبد بتصرّفه في لسانه قد عصى سيّده لكونه مملوكاً له، فقد أجاب عنه الشّيخ بوجوه:
أولاً: منع حرمة مثل هذه التصرّفات، للسيرة المستمرّة على مكالمة العبيد ونحو ذلك من المشاغل الجزئيّة.
وثانياً: بداهة أنّ الحرمة في مثل هذه لا توجب الفساد، فلا يظنّ استناد العلماء في الفساد إلى الحرمة.
وثالثاً: أن الاستشهاد بالرواية لعدم كون معصية السيّد ـ بالتكلّم بألفاظ العقد والتصرّف في لسانه ـ قادحةً في صحّة العقد، غير صحيح، لأنّ مقتضاه أن يكون التكلّم الذي هو معصية لله تعالى مفسداً، مع أنّ حرمة العقد من حيث أنه تحريك للّسان لا يوجب فساده إجماعاً.
(1) وسائل الشيعة 21 / 114، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء، الباب 24 رقم: 1.
(2) وسائل الشيعة 21 / 115، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء، الباب 24 رقم: 2.
(3) قوانين الاصول: 225.
(4) منية الطالب 1 / 208.
(5) جواهر الكلام 22 / 271.