بقيّة المناقشة و النّظر فيها
قال الشيخ:
وأمّا ما ذكره من الوجوه الثلاثة فيما إذا كان العوضان معيّنين، فالمقصود إذا كان هي المعاوضة الحقيقيّة،… فلا حاجة إلى تعيين من ينقل عنهما وإليهما العوضان…
أقول:
إنّ البيع معاوضة بين المالين في الملكيّة، والملكيّة أمر إضافي لا يعقل تحقّقه في الخارج بلا طرف، فالملكيّة بلا مالك غير معقولة. والقول بأن العوضين يدخل كلّ منهما بالملازمة العقليّة في ملك مال الآخر، لا معنى له، فإنّ حقيقة المعاوضة إنشاء تمليك هذا بهذا، ولا يعقل دخول الشيء في ملك أحد بعنوان المعاوضة بلا إنشاء لها، فلا وجه لدعوى الملازمة العقليّة.
وعلى هذا، فإن أراد من قوله: «فلا حاجة إلى التعيين…» أنْ لا حاجة بقول مطلق حتى في النيّة، فهذا لا معنى له، إذ لابدّ من أن يقصد المملّك طرفاً لتمليكه.
فظهر سقوط ما ذكره من الملازمة العقليّة، وما ذكره من عدم الحاجة إلى التعيين.
بل التحقيق أن بيع المالك وإنشائه المعاوضة بين المالكين، يلازم عقلاً قصده دخول ملكه في ملك مالك العوض، فهو إدخالٌ من المالك وليس دخولاً، لأن الدخول بلا تمليك غير معقول، إذ ليست الملكيّة أمر ثبوتيّاً واقعيّاً حتى يقع التبادل فيه، كما هو الحال في المكان مثلاً، إذ يقال: قام هذا بدلا عن ذاك في مكانه وسدّ مسدّه وحلّ محلّه، بل هي أمر إنشائي اعتباري، وإذا اعتبر، فهل يعقل أن يعتبر الملكيّة وينشئها بلا طرف؟ كلاّ. نعم، لاحاجة إلى التعيين التفصيليّ بل يكفي التعيين بالقصد الإجمالي. ولو كان صاحب المقابس يرى لزوم تعيين المالك تفصيلاً ورد عليه الإشكال.
وبما ذكرنا ظهر ما في كلامه السّابق من أنّ القصد إلى العوض وتعيينه يغني عن تعيين المالك، فإنه إن أراد الإغناء مطلقاً، ورد عليه ما تقدّم، وإنْ أراد الإغناء عن تعيينه تفصيلاً، فالحق معه، لكنّ صاحب المقابس لا يدّعي لزوم النيّة التفصيليّة خاصّةً لطرف الإضافة بل عبارته أعم منها ومن الإجمالية.
هذا كلّه على مسلكه.
وأمّا على المختار من أنّ البيع تمليك بعوض ـ وما في القاموس من أنّ البيع مبادلة بمال(1) متينٌ جدّاً ـ أي أن البائع يبدّل ما عنده بالعوض الخارجي، ويقتضي ذلك أن يقوم العوض مقام المبيع وإنْ كان لغير المشتري، فلو باع شيئاً بعوض شيء، فلا يلزم أنْ يكون المشتري مالكاً لذلك الشيء، ولذا لو لم يعيّن المشتري لم يقع البيع.
قال الشيخ:
وأمّا ما ذكره من مثال: من باع مال نفسه عن غيره، فلا إشكال في عدم وقوعه عن غيره، والظاهر وقوعه عن البائع ولغويّة قصده عن الغير، لأنه أمر غير معقول…
أقول:
أمّا لغويّة قصده عن الغير، فواضحة.
وأمّا استظهار وقوعه عن البائع، ففيه: إنّ قوله: «بعت متاعي عن زيد» قاصداً لوقوع البيع عن نفسه، مستلزم للتناقض كما لايخفى، وأمّا إن لم يكن قاصداً لذلك، فكيف يعقل أنْ يخرج الإنسان ملكه عن نفسه بلا قصد لذلك بل مع قصد كونه عن الغير؟
فالتحقيق بطلان هذا البيع.
وبعبارة اخرى:
إن كان البيع مبادلة مال بمال، بأنْ تكون حقيقة البيع هي حفظ الإضافة ووقوع المبادلة بين طرفي الإضافتين وهما المالان، فلا شبهة في أن جعل الثمن طرفاً لإضافة البائع يستلزم لحاظ الإضافة، والإضافة لا يعقل لحاظها إلاّ بلحاظ طرفيها، فالبائع المالك موردٌ للّحاظ لا محالة. وهذا هو حقيقة المعاوضة لا أنّه من لوازمها.
وبهذا يظهر أيضاً عدم تماميّة قوله: فلا حاجة…
نعم، لا حاجة في مقام الإثبات.
وإنْ كان البيع إنشاء تمليك عين بعوض ـ كما هو المختار عنده ـ ، فلا يعقل تمليك الشيء لأحد من غيرتعيين له، لأنّه أمر إضافي ولا يعقل إنشاؤه بلا طرف.
إذن، لابدّ من تعيين المالك في مقام الثبوت ولو إجمالاً بالنيّة.
وقال السيّد(2) معلّقاً على قول الشّيخ: والظّاهر وقوعه عن البائع:
إنه لا معنى للغويّة قصد الغير وإنه راجع إلى التناقض ويبطل من هذه الجهة.
أقول:
لو باع الشيء الذي هو ملك له قاصداً لأنْ يبيعه عن نفسه وهو لا يريد التصريح بذلك، فيذكر عنوان الغير توريةً لئلاّ يفهم كونه له، صحّ البيع ووقع عن نفسه. أمّا لو باعه عن الغير محضاً وأخرج نفسه تماماً، كان باطلاً بلا ريب، إذ لا معنى لأنْ يبيع الرجل مال نفسه عن الغير فضولةً. ولو باع عن نفسه وعن غيره معاً بطل، للزوم التناقض.
فصور البيع ثلاثة، وهو في واحد منها فقط صحيح.
قال الشيخ:
إلاّ أنْ يقال: إنّ وقوع بيع مال نفسه لغيره إنما لا يعقل إذا فرض قصده للمعاوضة الحقيقيّة، لِمَ لا يجعل هذا قرينةً على عدم إرادته من البيع المبادلة الحقيقيّة أو على تنزيل الغير منزلة نفسه في مالكيّة المبيع… وحينئذ، فيحكم ببطلان المعاملة، لعدم قصد المعاوضة الحقيقيّة مع المالك الحقيقي.
أقول:
قد انتقض قوله: فيحكم ببطلان المعاملة لعدم قصد… بمعاملة الفضولي الغاصب حيث حكم بصحة معاملته، مع عدم قصد المعاوضة الحقيقيّة مع المالك الحقيقي(3).
ولكنْ يمكن الفرق: بأن المعاملة الواقعة من الغاصب صادرة عن المالك الإدّعائي، ثم إذا لحقتها الإجازة من المالك الأصلي صحّت، وأمّا فيما نحن فيه، فقد جعل الغير مالكاً إدّعائياً إلاّ أن المعاملة غير صادرة عنه ولا علاقة للمالك الحقيقي بها. فالنقض غير وارد.
وبذلك يظهر وجه البطلان، ولعلّه مراد الشيخ من قوله: لعدم قصد المعاوضة…
ولكنّ الأظهر عندي ـ وإنْ لم ينبّه عليه أحد ـ أنّ مراده هو: أنّ المقصود ـ من قول المالك «بعت مالي عن غيري» ـ دخول الثمن في ملك الغير، بدليل قوله بعد ذلك: ومن هنا ذكر العلاّمة وغيره في عكس المثال المذكور أنه لو قال المالك للمرتهن: «بعه لنفسك» بطل…
والحاصل: إن سبب البطلان عدم دخول العوض في المحلّ الذي خرج عنه المعوّض، على مسلكه رحمه الله في المعاوضة الحقيقيّة من لزوم دخول كلٍّ من العوضين في المحلّ الذي خرج منه الآخر.
لكنّ التحقيق هو: إنّ البيع مبادلة مال بمال بنحو التمليك، أي: هو التمليك بعوض، بأنْ يدخل الثمن العوض في محلّ المبيع المعوّض، أمّا اشتراط أنْ يدخل المعوّض إلى المحلّ الذي خرج عنه العوض، فلا دليل عليه، ولذا لو باع العين الموقوفة ـ حيث يجوز بيعها ـ بعوض، كان العوض وقفاً، ولو باع الزكاة كان زكاةً. فالوجه في الحكم ببطلان البيع في المثال المذكور هو عدم دخول العوض في ملك من خرج المعوّض عن ملكه.
وأمّا في المثال الثاني، وهو ما لو دفع مالاً إلى من يريد أن يطعمه وقال: اشتر به لنفسك طعاماً، فالمعاملة صحيحة، لأن الثمن يدخل في ملك بائع الطعام، فكان تمليكه للطعام بعوض يدخل في ملكه، وإنْ لم يدخل الطعام في ملك من خرج الثمن من كيسه.
وعلى الجملة، فإنه إنما يبطل البيع في كلّ مورد لا يدخل الثمن في الموضع الذي خرج عنه المثمن، لما ذكرنا من أن البيع هو التمليك بعوض.
فالحق هو الفرق بين المثالين المذكورين في كلام العلاّمة وغيره.
ثم قال الشيخ:
لكنّ الأقوى صحة المعاملة المذكورة ولغويّة القصد المذكور، لأنه راجع إلى إرادة إرجاع فائدة البيع إلى الغير، لا جعله أحد ركني المعاملة.
أقول:
تقريب الحكم بالصحّة هو: إن الواقع في حيّز البيع في قوله: «بعت هذا عن غيري» هو المال، وأمّا حيثيّة الإضافة فلا تقع في حيّز البيع، وادّعاء كونه ملكاً للغير لا يضرّ بوقوعه بل يكون ملغىً.
(1) القاموس المحيط «بيع».
(2) حاشية السيّد 2/32.
(3) حاشية السيد 2 / 32 ـ 33.