النظر في الطائفة الاولى
قال الشيخ:
وأمّا حديث رفع القلم، ففيه…
أجاب الشيخ بثلاثة وجوه، وهي:
أوّلاً: المراد من القلم قلم المؤاخذة، لا قلم جعل الأحكام الوضعيّة منها والتكليفيّة.
وثانياً: المشهور على أنّ الأحكام الوضعيّة مجعولة بنفسها، فلم لا يقال بأنّ المرتفع قلم الأحكام التكليفيّة، وأمّا الأحكام الوضعيّة فتابعة لموضوعاتها، وتدور مدارها، فكما يكون الصبيّ محدثاً إلاّ أن وجوب الوضوء بعد البلوغ، ويكون ضامناً للشيء إذا غصبه في حال صباه لكنّ وجوب الأداء بعد البلوغ، كذلك لو أجرى عقد البيع، فالملكيّة تحصل له قبل البلوغ إلاّ أنّ وجوب الوفاء يكون بعده، أو أجرى عقد النكاح، فالزوجيّة تتحقّق له إلاّ أنّ وجوب النفقة ـ مثلاً ـ بعد البلوغ، وهكذا.
فالأحكام الوضعيّة تترتّب على أفعال الصبيّ، غير أنّ آثارها التكليفيّة تتوقّف على البلوغ.
وثالثاً: إنّه يجوز أن يكون الفعل أو القول الصّادر من غير المكلّف موضوعاً لأحكام البالغين، كما لو أنجس الطفل المسجد، فإنه يجب على البالغين إزالة النجاسة، وعليه، فلو عقد الصبيّ البيع لم يترتب عليه الأثر فعلاً إلاّ أنّه يصير موضوعاً لوجوب الوفاء عليه بعد بلوغه، إذ لا فرق في كون الفعل موضوعاً لحكم البالغين، بين أنْ يكون البالغ هو أو غيره، ولذا يجب عليه تطهير المسجد بعد بلوغه إنْ لم يبادر غيره إلى ذلك.
أقول:
إنّ رفع المسبّب برفع سببه، وإنّ المؤاخذة مسبّبةٌ عن المعصية، وهي ترك الواجب أو فعل الحرام، فإذا كان المراد قلم المؤاخذة، كان المعنى عدم صدور المعصية من الصبيّ، أي: إنه لا يجب ولا يحرم عليه شيء، وحينئذ يكون الحديث أجنيّاً عن العقود والإيقاعات ويخرج عن البحث.
وبعبارة اخرى: رفع القلم كناية عن رفع الأحكام الإلزاميّة، فلا دلالة للحديث على بطلان عباداته المستحبّة. أما العقود والإيقاعات، فلا ربط للحديث بها حتى يستدلّ على بطلانها من الصبي.
هذا أوّلاً.
وثانياً: إنّ هذا الرّفع تشريعي، وهو إنما يتعلّق بالتكليف، فإنه القابل للوضع فيقبل الرّفع. نعم، إنما يتمّ الرّفع حيث يكون المقتضي للحكم ثبوتاً أو إثباتاً متحقّقاً. وبعبارة اخرى: إنما يصدق الرّفع إذا كان المرفوع ثابتاً خارجاً أو ملاكاً أو بحسب العمومات في مقام الإثبات، وعلى كلّ حال، فإنّ الرفع إنما يتعلّق بالتكليف، ولذا جاء التعبير عن التكليف بالكتابة في مواضع من الكتاب المجيد، كقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(1) وقوله: (فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ…)(2) وأمثال ذلك، حيث جاء الحكم التكليفي في حيّز الكتابة، فالقلم قلم التكليف، وهو مرفوع عن الصبيّ، أي لايكتب عليه، لأنّ العقاب ـ سواء كان بحكم العقل، أو كما قال ابن سينا: هو على أثر الوعيد، أو كما قال الفلاسفة: إنه على أثر إفاضة الصّور الاخرويّة على الأعمال ـ لا علاقة له بالتشريع.
ولمّا كان الرفع تشريعيّاً، فهل هو رفع لخصوص التكاليف الإلزاميّة أو للأعمّ منها ومن غير الإلزاميّة؟
الظاهر هو الأوّل، لأنّ الرفع يقابل الوضع، والوضع لا يصدق إلاّ في الإلزاميّات]1[، وعلى هذا، فالحديث أجنبيّ عن محلّ الكلام.
وعلى الجملة: فإنّ الشيخ ذكر أنّ المراد قلم المؤاخذة، ولعلّه لأنه المرفوع عن المجنون والنائم وهما غير مكلّفين، فمقتضى وحدة السّياق أنْ يكون هو المراد في الصبيّ كذلك، فالرفع عنهم عقلي لا شرعي.
لكنّ الرفع تشريعي، وهو إنما يصدق حيث يمكن الوضع، والوضع إنما يتعلّق بالتكليف، فلو سلّمنا مقتضى وحدة السياق، فإن قوله: «لا قلم جعل الأحكام» غير صحيح، لأن «رفع القلم» سواء كان إخباراً أو إنشاءً لرفع المؤاخذة، كناية عن رفع سببها، وهو المعصية، والمعصية فرعٌ للأمر أو النّهي الإلزامي، فيرجع إلى رفع التكليف، وعليه، يكون الحديث أجنبيّاً عن العقود والإيقاعات ومطلق الأحكام الوضعيّة.
]1[ وهذا البيان هو الصّحيح، وأمّا ما عن بعض الأصحاب من أن ظاهر كلمة الرفع وجود الثقل وهو في التكاليف الإلزاميّة دون المستحبّات. فيرد عليه: أن كلمة الرفع تستعمل سواء في الثقيل والخفيف، إذ لم يثبت أخذ الثقل في مفهوم الرّفع، ومن هنا جوز بعض مشايخنا دام بقاه رفع الحديث المستحبّات كالواجبات. لكنّ مقتضى بيان السيّد الجدّ عدم رفع المستحبّات كما لا يخفى.
على أنّ ظاهر الحديث هو أنّ ما شرّع للبالغين غير مشرّع لغيرهم، وما شرّع للعقلاء غير مشرّع للمجانين، وما شرّع لليقظين غير مشرّع للنائمين، فهو غير مرتبط بالأحكام الوضعيّة التي لا دخل للعقل والبلوغ واليقظة فيها، لأنها أحكام تترتّب على موضوعاتها، أعمّ من أن يكون عاقلاً أو مجنوناً، بالغاً أو صبيّاً، نائماً أو مستيقظاً.
وتلخّص: عدم تماميّة الاستدلال بهذا الحديث لاعتبار البلوغ في العقود والإيقاعات.
فإنْ قلت:
قد ورد في خبر أبي البختري: «المجنون والصبي عمدهما خطأ تحمله العاقلة، وقد رفع عنهما القلم»(3) وظاهره كون رفع القلم مسبّباً عن أنّ «عمدهما خطأ»، فيفيد أنّ قصدهما لا قصد، فهو ظاهر في أن كلّ أمر قصدي يصدر عن المجنون والصبيّ لا يترتب عليه الأثر الذي يقصد منه، فيعمّ العقود والإيقاعات ونحوها من الأحكام الوضعيّة المعتبر فيها القصد، فيدلّ على اعتبار البلوغ في البيع.
قلت:
أوّلاً: هذه الرّواية تشتمل على جملتين، الاولى اسميّة والثانية فعليّة، وفي كلّ واحدة منهما حكم مستقلّ، لا أن الثانية متفرّعة على الاُولى، وإنْ ذكر ذلك الشيخ فيما سيأتي.
وثانياً: إنّ لسان قوله: «عمدهما خطأ» لسان الحكومة، ومعنى ذلك ترتيب آثار المنزّل عليه على المنزّل، مثل: «الطّواف بالبيت صلاة» وحينئذ، فما هو أثر الخطأ حتّى يترتّب على العمد؟ إنه ليس رفع القلم من آثار الخطأ منهما حتى يترتّب على العمد.
وثالثاً: إنّ غاية ما تدلّ عليه هذه الرّواية ترتيب أثر الخطأ على العمد منهما، ولا دلالة لها على أنّ القصد منهما كلا قصد، وهذا هو المدّعى.
هذا تمام الكلام على حديث رفع القلم.
(1) سورة البقرة: 183.
(2) سورة البقرة: 246.
(3) وسائل الشيعة 29 / 90، كتاب القصاص، الباب 36 رقم: 2.