النظر في الاستدلال برواية أبي البختري
قال الشيخ:
بل يمكن بملاحظة بعض ما ورد من هذه الأخبار… إستظهار المطلب من رفع
فقد أطلق عنوان الخطأ في الأذان والإقامة مع عدم ترتّب المسبّب على السبّب قهراً أو قصداً.
الوجه الثاني: إن لسان الأخبار هو الاتّحاد بين العمد والخطأ، وهذا إنما يصّح حيث يكون لصورة العمد حكم ولصورة الخطأ حكم مغاير لحكم العمد كما هو الحال في القتل. أمّا في المعاملات، فإنه ليس للمعاملة الخطائيّة حكم بالنسبة إلى البالغين، كي يصحّ القول بأنّ معاملة الصّبي كمعاملة البالغ في الخطائيّة.(1)
واُجيب: بأنّ ظاهر عمد الصبي خطأ هو: إن عمد الصبىّ كلا عمد.
وهذا واضح الاندفاع، إذ ليس الخبر ظاهراً فيما ذكر.
بل الجواب الصحيح هو أن الخطأ مما ارتفع بحديث الرفع، وقد تقرر في محلّه إن حديث الرفع يفيد جعل الحكم الظّاهري بالنسبة إلى (ما لايعلمون) ويرفع الحكم الواقعي بالنسبة إلى (الخطأ) و(النسيان) و (ما اكرهوا عليه) و (ما اضطرّوا اليه)، فمدلول حديث الرفع هو جعل عدم الحكم إمّا ظاهراً وإمّا واقعاً، وعليه، يكون للخطأ أثر شرعي، والشّارع ينزّل عمد الصّبي بمنزلة خطئه في الحكم.
القلم، وهو ما عن قرب الإسناد بسنده عن أبي البختري… فإن ذكر رفع القلم في الذيل…
أقول:
إنّ الشيخ ـ بعد أنْ استظهر سابقاً من حديث رفع القلم عدم المؤاخذة الاُخرويّة ـ يريد استظهار سلب اعتبار قصد الصبيّ من رفع القلم الوارد في ذيل خبر أبي البختري المتقدّم قريباً، إذ قال عليه السّلام: «عمدهما خطأ تحمله العاقلة وقد رفع عنهما القلم»، بتقريب أن قوله: «رفع عنهما القلم» بعد «عمدهما خطأ تحمله العاقلة» ليس إلاّ للدلالة على رفع قلم المؤاخذة عنه، دنيويّة واخرويّة، نفسيّة وماليّة، فقد رفع عنه قلم المؤاخذة بقول مطلق ـ لا خُصوص المؤاخذة الاُخرويّة ـ وذلك: لأنّ رفع القلم إمّا هو علّة لتحمّل العاقلة، أو هو معلول له،
أمّا كونه علّةً، فلأنّه لمّا رفع القلم مطلقاً عن الصبيّ، لم يكن عليه إن قتل قصاص ولا دية، ولكنّ هذا ينافي ما دلّ على أنّ دم المسلم لا يذهب هدراً، كخبر أبي عبيدة قال سألت أبا جعفر عليه السّلام عن أعمى فقأ عين صحيح
فقال عليه السّلام: إن عمد الأعمى مثل الخطأ، هذا فيه الدية في ماله، فإن لم يكن له مال فالدية على الإمام … ولا يبطل حق امرئ مسلم(2).
والخبر عن أمير المؤمنين في حديث: «فأنا وليّه والمؤدّي عنه ولا أبطل دم امرئ»(3).
فلا محالة يكون عليه شيء «تحمله العاقلة»، فكان «رفع القلم» علّةً لقوله «تحمله العاقلة»، وإلاّ لكان رفع القلم بقول مطلق بلا ربط بالسّابق.
وأمّا بيان كون «رفع القلم» بقول مطلق معلولاً لقوله «عمدهما خطأ»، فقد ورد في كلام الشيخ، قال: يعني أنه لمّا كان قصدهما بمنزلة العدم في نظر الشارع وفي الواقع رفع القلم عنهما.
وعلى كلّ تقدير، يكون المرفوع قلم المؤاخذة بقول مطلق، أي: ارتفاع المؤاخذة عن الصبي والمجنون شرعاً من حيث العقوبة الاخرويّة والدنيويّة المتعلّقة بالنفس كالقصاص أو المال كغرامة الدية، وعدم ترتب ذلك على أفعالهما المقصودة المتعمّد إليها، مما لو وقع من غيرهما مع القصد والتعمّد لترتّبت عليه غرامة اُخرويّة أو دنيويّة.
كان هذا شرح مطلب الشيخ، وبه يظهر اندفاع ما أورده البعض من أنه لا عليّة ولا معلوليّة بل النسبة هي الترادف(4).
أقول:
أوّلاً: إنْ كانت القضيّة قضيّةً شخصيّة، لم يكن وجهٌ لرفع القلم إلاّ بأنْ يكون علّةً أو معلولاً لقوله «عمدهما خطأ»، فما ذكره الشيخ إنما يصحّ لو كانت القضيّة في الرواية شخصيّة، ولكنّها ليست كذلك، بل هي كليّة كما هو واضح، فقد أفاد الإمام عليه السّلام حكمين كليّين بالنسبة إلى الصبيّ والمجنون لا ربط لأحدهما بالآخر، أحدهما: «عمدهما خطأ تحمله العاقلة» والآخر: إنه «قد رفع عنهما القلم».
وثانياً: إنّه لولا المقدّمة الخارجيّة التي ذكرناها ـ وهي أن دم المسلم لا يذهب هدراً ـ لم تكن لرفع القلم بقول مطلق عليّة لـ«تحمله العاقلة»» أصلاً ولا دية على أحد أبداً، وأمّا بالنظر إليها، فلماذا تتعيّن الدية على العاقلة، فلتكنْ على بيت المال كما في الأخبار المذكورة، فأين العليّة؟
وثالثاً: إن القلم المرفوع هو قلم التكليف، وقوله عليه السّلام في الرواية: «وقد رفع عنهما القلم» علّة لقوله عليه السّلام: «عمدهما خطأ»، فليس علةً ولا معلولاً لقوله: «تحمله العاقلة»، لأنّه لمّا كان لا تكليف عليه لا قصاصاً ولا دية، فقد جعل الشّارع عمدهما خطأً، وحينئذ تحمله العاقلة. وهذا هو التحقيق في معنى الرّواية.
(1) مصباح الفقاهة 3/255.
(2) وسائل الشيعة 29 / 89 ، الباب 35 من أبواب القصاص رقم: 1.
(3) وسائل الشيعة 29 / 393 الباب 2 من أبواب العاقلة رقم: 1.
(4) حاشية كتاب المكاسب 2 / 22.