التحقيق
وبعد المقدّمات نقول:
قد وصف الشيخ ما دلّ على أنّ عمد الصّبي وخطأه واحد بالإستفاضة، والحال أنّه ليس إلاّ رواية واحدة، وهي صحيحة محمّد بن مسلم، وأمّا بقيّة الروايات فموردها الجنايات.
فأمّا ما عدا الصّحيحة، فلا يصلح للاستدلال على بطلان عقد الصبيّ، إذ لا إطلاق لتلك النصوص، لاشتمالها على قوله «تحمله العاقلة»، لأنّه قرينة على أنّ المراد هو الجناية، ولا أقلّ من صلاحيّتها للقرينيّة، فلا مجال لدعوى انعقاد الظهور الإطلاقي. هذا أوّلاً.
وثانياً: لو كان مراد الشارع إسقاط عمل الصبيّ عن التأثير مطلقاً لقال: عمد الصبيّ كلا عمد، كما قال في «لا شك لكثير الشك». لكنّ الجملة إثباتيّة والمقصود منها الحكومة، بتنزيل عمد الصبي منزلة الخطأ. أي كما لا أثر لخطأ الصبيّ كذلك لا أثر لعمده، وهذا المعنى خاصٌّ بباب الجنايات.
وثالثاً: القول بدلالة الروايات على سلب عبارة الصبيّ وأنّ قصده كلا قصد، يستلزم تخصيص الأكثر، فلا يترتب الأثر الشرعي على قصده الإقامة عشرة أيام في مكان لو بلغ في الأثناء، أو قصد السّفر وبلغ في الأثناء… وهكذا…
فدعوى العموم والإطلاق في روايات عمد الصبي وخطؤه واحد تحمله العاقلة، لتشمل العقود، مردودة بوجوه.
وأمّا الصّحيحة، فلا تخلو عن أنْ يكون المراد أنّ الأثر هو للعنوان الجامع بين العمد والخطأ، كما في قولنا: «الإخلال بالركن في الصّلاة مبطل لها سواء كان عن عمد أو خطأ» حيث أنّ الحكم ـ وهو البطلان ـ مترتّب على عنوان «الإخلال بالركن» الجامع بين الخطأ والعمد، أو أن المراد أنه وإنْ كان للعمد والخطأ حكمين مختلفين، إلاّ أنهما في الصبيّ بحكم واحد.
ولكنّ المعنى الأوّل غير مراد من الصحيحة يقيناً، لعدم الأثر للعنوان الجامع هنا، والمعنى الثاني أيضاً غير مراد، إذ لا أثر لكلٍّ من عمد الصبي وخطئه على الإنفراد في العقود، حتى يكون عمده بمنزلة خطئه في ذلك الأثر.
وعلى هذا، تكون الصحيحة أيضاً مختصّةً بباب الجنايات، لأنّ لعمد الصبيّ وخطئه فيها حكمين مختلفين، فكان حكم عمده فيها حكم خطئه… فهي أجنبيّة عن العقود والإيقاعات.]1[.
]1[ وأمّا القول باختصاص الأخبار بباب الجنايات، لأنّ الذيل «تحمله العاقلة» قرينةٌ على إرادة ذلك حتى في غيرالمذيّل، ومع قطع النظر عن هذه القرينة، فإن المتعارف في التعبير بكلمتي العمل والخطأ هو باب الجنايات وباب كفّارة الإحرام، وهذا التعارف يوجب صرف الكلمتين عن الظهور في العموم.(1)
فلا يخفى ما فيه، أمّا الأوّل، ففيه أنه خلاف المبنى في باب الإطلاق والتقييد، فقد تقرّر عدم جميل المطلق على المقيّد إن كانا مثبتين، وأمّا الثاني، ففيه أنه خلاف المبنى في منشأ الإنصراف، فقد تقرّر أن الإنصراف لايكون إلاّ في مورد خفاء الصّدق.
فإن قلت:
إن قوله عليه السّلام في الصّحيحة كناية، فكأنّه قال: عمد الصبيّ وخطأ واحد في عدم ترتّب الأثر على العمد.
قلت:
إذا كانت كنايةً كذلك، فلا يعقل أن تكون عامّةً، لأنّ عمد الصبي وخطئه في الجناية واحد في ترتّب الأثر، فكون الصحيحة عامّةً للعقود والجنايات يستلزم الجمع بين المتناقضين، وإذْ لا عموم لها، فإمّا هي دالّة على الوحدة في ترتب الأثر أو على الوحدة في عدم ترتب الأثر، فتكون مجملةً.
على أنّه يرد على القول بأنّ عمد الصبي وخطئه واحد في عدم ترتب الأثر على العمد، بأنّ العمد لم يكن ذا أثر شرعي، لأنّ اعتبار الأثر كان من العقل.
وتلخّص:
سقوط الاستدلال بالصحيحة، وكذا بغيرها من النصوص، على سلب عبارة الصبيّ في العقود والإيقاعات، وكون قصده كلا قصد.]1[.
]1[ وقد اُجيب عن الاستدلال بهذه النصوص بوجهين آخرين يرجعان إلى فقه تلك النّصوص بالنظر إلى العمد والخطأ:
أحدهما: إن التنزيل إنما يصحّ حيث يكون الموضوع ذا أثر على كلا التقديرين، كالقتل مثلا، فهو ذو أثر في حال العمد والخطأ، أمّا في المعاملات، فلايترتّب الأثر إلاّ
مع القصد، وإذلا أثر في صورة الخطأ فلامعنى للتنزيل.(2)
وقد اُجيب: بأنه يعتبر في تنزيل الشئ بمنزلة الشئ وجود المصحّح للتنزيل ولايعتبر وجود الأثر، بل يصحّ التنزيل في عدم الأثر، فيكون العمد منزّلاً بمنزلة الخطأ في عدم الأثر.
واُورد عليه: بأنّ التنزيل لايصح إلاّ بلحاظ الأثر، كما في تنزيل الطواف بمنزلة الصّلاة، فإنه بلحاظ الطّهارة. ولو سلّمنا بما ذكر، فلابدً وأن يكون عدم الأثر لعنوان الخطأ، لكنّ عدم الأثر في المعاملات هو للعنوان المقصود من المعاملة وليس للخطأ. فهذا الجواب مردود.
بل الصحيح في الجواب هو: إنّ «العمد» و «الخطأ» لايختصّان بالموارد التي تتقسم المسبّبات فيها إلى ما يكون ترتّبه قهرّياً ومايكون ترتّبه قصّدياً، فقد استعمل اللّفظان في موارد ليست من هذا القبيل، كما في الخبر:
عن علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يخطئ في أذانه وإقامته، فذكر قبل أن يقوم في الصّلاة، ما حاله؟ قال: إن كان أخطأ في أذانه مضى على صلاته، وإن كان في إقامته انصرف فأعادها وحدها، وإنْ ذكر بعد الفراغ من ركعة أو ركعتين، مضى على صلاته وأجزأه ذلك.(3)
(1) كتاب البيع والمكاسب 1 / 401.
(2) حاشية المكاسب للاصفهاني 2 / 18 ـ 19.
(3) وسائل الشيعة 5/442 الباب 33 من أبواب الأذان والإقامة، رقم: 5.