الاستدلال بروايات المضاربة
قال الشيخ:
ربما يؤيد صحة الفضولي بل يستدلّ عليها بروايات… مثل موثقة جميل…
أقول:
قد أيّد صحّة بيع الفضولي أو استدلّ عليها بروايات كثيرة وردت في مقامات خاصّة:
منها: ما ورد في المضاربة، كرواية جميل الموثّقة عن أبي عبدالله عليه السّلام: في رجل دفع إلى رجل مالاً يشتري به ضرباً من المتاع مضاربةً، فذهب فاشترى غير الذي أمره.
قال: هو ضامن، والربح بينهما على ما شرط(1).
ولا يخفى أنّ المضاربة هي: أن يدفع الرجل المال ـ والمعروف المشهور اعتبار الذهب والفضة ـ لغيره على أن يعمل، والربح بينهما على ما اتّفقا عليه من النسبة، ومن أحكامها أنه إن خسر فهي على المالك فقط وإن ربح فبينهما. ولعلّ السرّ في عدم توجّه شيء من الخسارة إلى العامل هو كونه أميناً ـ والأمانة إمّا مالكيّة كما في الوديعة، وإمّا شرعيّة كما في الإجارة والمضاربة والرهن ـ والأمين لا يضمن مع عدم التفريط والتعدّي، فليس على العامل شيء إن تلف المال أو خسر في المعاملة، أمّا إذا خالف المالك فيما أمره به فهو ضامن.
وللمخالفة أربعة أنحاء، أنْ يخالف في المال المشترى، كأن يأمره بشراء شيء خاصٍّ فيشتري غيره، أو ينهاه عن شراء شيء معيّن بصراحة لكونه في معرض الخسران، أو لكونه مال يتيم وإنْ كان البائع وليّه، أو يشترط عليه العمل في البلد، فيخرج إلى مكان آخر.
والذي في الرواية المخالفة من النحو الأوّل.
وروى زيد الشحّام عن أبي عبدالله عليه السّلام:
في المضاربة إذا أعطى الرجل المال ونهى أن يخرج بالمال إلى أرض اخرى، فعصاه فخرج به.
فقال: هو ضامن والربح بينهما.(2)
فوقعت المخالفة من النحو الرابع.
وروى الحلبي عن أبي عبدالله عليه السّلام.
في الرّجل يعطي المال فيقول له: ائت أرض كذا وكذا ولا تجاوزها واشتر منها. قال: فإن جازها وهلك المال فهو ضامن. وإنْ اشترى متاعاً فوضع فيه فهو عليه. وإنْ ربح فهو بينهما.(3)
قال الشيخ:
فإنها إنْ اُبقيت على ظاهرها… وإنْ حملناها على صورة رضا المالك بالمعاملة بعد ظهور الربح… اندرجت المعاملة في الفضولي…
أقول:
قد خالف العامل ـ في رواية جميل ـ ما أمره به المالك، ولذا كان ضامناً إنْ خسر، ولكنْ ليس فيها تعرّض لإجازة المالك للمعاملة، فظاهرها عدم توقّف ملك الرّبح على إجازة المالك. فإنْ اُبقيت الرّواية على ظاهرها خرجت عن بحث تأثير الإجازة اللاّحقة لمعاملة الفضولي، وكان الحكم بملكيّة الربح تعبديّاً.
وبعبارة اخرى: كونه ضامناً إنْ خسر، وإنْ ربح فهو بينهما، لا يجتمعان، لأنه إن كان الربح بينهما فهي مضاربة فلا ضمان على العامل، وإنْ كان ضامناً فهي ليست مضاربة ولا يكون الربح بينهما، فالرواية محمولة على التعبّد.
قال الشيخ: لكن فيها استيناس لحكم المسألة، من حيث عدم اعتبار إذن المالك سابقاً في نقل مال المالك إلى غيره.
هذا هو الاحتمال الأول في الرواية.
والإحتمال الثاني: أنْ يكون المالك راضياً بالمعاملة ـ الواقعة على خلاف رأيه ـ بعد ظهور الربح كما هو الغالب، وحينئذ، تندرج المعاملة في الفضولي، ويتمّ الاستدلال بها لما نحن فيه.
وفيه نظر، لأنه إذا اندرجت المعاملة في الفضولي استندت إلى المالك ويكون الربح كلّه له.
لا يقال: يكون الربح لهما، إذ يعطى العامل من باب اُجرة العمل.
لأنّ العمل إن كان بأمر من المالك فهو محترم ويستحق عليه الاجرة، لكنّ المفروض أنّ هذا العمل لم يكن بأمر منه، فلا يستحقّ شيئاً، ولو فرض استحقاقه فاُجرة المثل.
وفي المقابس: ووجه الإستدلال بها أنّ العامل لم يكن وكيلا في تلك المعاملة، فلو بطل عقد الفضولي لبطل عقد العامل هنا أيضاً، فوجب ردّ كلٍّ إلى صاحبه، ولم يجز تقسيم الربح بينهما كما دلّت عليه الرواية، فهي محمولة على تحقق الإجازة مع الربح كما هو الغالب دون الخسران، وإنّما قسّم الربح بينهما بناءً على إطلاق عقد المضاربة…(4)
وفيه:
إن صحّ الحمل المذكور، فلماذا الضّمان إنْ اتفقت الخسارة؟
ثم إنه لا فرق بين أن يقال: أن الغالب رضا المالك في صورة ظهور الربح، أو يقال: إنّ الأدلّة الأربعة على صحّة الفضولي بالإجازة اللاّحقة، تقيّد إطلاق «الربح بينهما» فيختصّ الحكم بصورة الرّضا لاحقاً.
وفي الرواية احتمالان آخران:
أحدهما: الحمل على كفاية الرّضا الباطني المقارن، كما هو مختار الشيخ.
والآخر: الحمل على الاختلاف في مصداق ما به الربح، لأنّ الغرض من المضاربة هو تحصيل الرّبح، والغالب فيها أنْ لا يكون للمالك نظر خاصّ في المال المشترى والمباع، ولا في مكان المعاملة وزمانها، بل يفوّض الأمر إلى العامل في كلّ ذلك، فلو اتّفق أنْ عيّن المالك مصداقاً لما يحصل به الربح فأمر العامل بشرائه، فاشترى العامل غيره لكونه المصداق لذلك برأيه، فإنْ حصل الربح بما اشتراه العامل فهو بينهما، لأنّ الكبرى الكليّة منطبقة عليه، وإنْ خسر فهو ضامن، لعدم كونه مأذوناً في الخصوصيّة.
وهذا الوجه هو الأظهر في رواية جميل، وبذلك تخرج عن مسألة الفضولي.
ولو اتّفق اختلافهما في مكان المعاملة أو زمانها، لم يقدح فيها، لأنّ الزمان والمكان خارجان عن المعاملة المقرّرة فيما بينهما، وعليه، فكون الرّبح بينهما على القاعدة، ويبقى الإشكال في كونه ضامناً إن خسر، فلابدّ من حمله على الاشتراط كما في الخبر:
عن أبي عبدالله عليه السّلام: كان للعباس مال مضاربةً، وكان يشترط أن لايركبوا بحراً ولاينزلوا وادياً، فإن فعلتم، فأنتم ضامنون فاُبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله فأجاز شرطه عليهم.(5)
وتلخص:
عدم تماميّة الاستدلال بروايات المضاربة.
(1) وسائل الشيعة 19 / 18، كتاب المضاربة، الباب 1 رقم: 9.
(2) وسائل الشيعة 19 / 18، كتاب المضاربة، الباب 1 رقم: 11.
(3) وسائل الشيعة 19 / 16، كتاب المضاربة، الباب 1 رقم: 2.
(4) مقابس الأنوار: 126.
(5) وسائل الشيعة 19/18، كتاب المضاربة، الباب 1، رقم: 12.