ويبقى الكلام في وجه التمسّك بالإطلاقات في كلّ مورد شكّ في دخل شيء وجوداً أو عدماً في المؤثّرية، وينحلُّ كلام الشيخ هنا إلى وجهين:
أحدهما: إن الشارع يخاطب العرف، وهو كأحدهم في مكالماته ومحاوراته معهم، فمراده من البيع في قوله (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) هو ما يراه العرف بيعاً، كما هو الحال في الألفاظ الأخرى من الماء والتراب وغيرهما، فمراده من البيع في الآية ـ وهو يكلّم العرف ويتكلّم بلسانهم ـ نفس ما يراه العرف بيعاً، فمعنى الآية حينئذ: إن النقل الملكي الحاصل من المصدر المؤثر عند العرف في الملكيّة الواقعيّة، حلالٌ بالحليّة الوضعيّة.
والثاني: إن «أحلّ» تعبّد من الشارع بالتأثير وجعله مؤثراً، فالبيع الذي هو مبدء المشتقات، هو الذي تعلّق به الحلّ، أيْ جُعل حلالاً ومؤثّراً في الملكية الواقعية.
وحاصل الوجهين: إنّ البيع لم يستعمل في الآية في المؤثّر في الملكيّة الشّرعية، بل هو مستحيل، للزوم إثبات الشيء بنفسه.
ولو فرض كون الحليّة بمعنى الترخيص لا الحليّة الوضعيّة، فالأمر كذلك، إذ يكون المعنى: إنكم مرخّصون في البيع الذي هو مؤثّر عندكم في الملكيّة، فلو لم يكن مؤثّراً عندهم لم يعقل الترخيص فيه لهم، فالترخيص فيه ملازم لكونه مؤثّراً، وليس الترخيص إلاّ الإمضاء والقبول.
هذا بيان كلام الشيخ وهو المقصود يقيناً، خلافاً لبعض الأكابر حيث فسّره بنحو آخر غير مقبول عندنا.
وهذا كلّه بناءً على أنّ للملكيّة واقعيّةً كما عليه المشهور، وحاصل الكلام بناءً عليه: إنه إنْ أثّر ما صدر من البائع في الأمر الواقعي كان بيعاً وإلاّ فلا يكون بيعاً، ولذا يكون النهي من الشارع ـ كما في مورد الغرر والرّبا ـ بمعنى أن البيع الواقع من المالك غير مؤثر، وإنْ كان مؤثراً عند العرف كذلك، كان الشارع مخطّئاً للمالك والعرف في تلك الموارد; وحيث لا نهي منه فهو الإمضاء لما هو الموجود عند العرف.
وأمّا بناءً على أنْ لا واقعيّة للملكيّة يكون نظر الشارع والعقلاء طريقاً إليها، بل هي أمر اعتباري ولا حقيقة لها وراء الاعتبار، كان البيع أمراً قائماً بنفوس العقلاء واعتباراً آخر قائماً بنفس الشارع، فإذا نهى الشارع عن الغرر مثلاً، فالملكيّة موجودة، إلاّ أن الشارع لا يرتّب الأثر الشرعي عليها.
وهذا المبنى هو الحق كما تقدّم، وعليه يصحّ التمسّك بالإطلاقات بكلّ وضوح، لأنّ لفظ البيع موضوع للمعنى اللّغوي أي الملكيّة العقلائيّة، فإذا أحلّه اللّه فقد أحلّ البيع الذي هو مؤثّر في الاعتبار العقلائي، فيكون للشارع اعتبار إلى جنب الاعتبار منهم، وإذا نهى عنه في مورد كان استثناءً عن العام أو المطلق الدالّ على حليّة جميع الأقسام، فإنْ اشترط للمؤثريّة شرطاً، أسقط عن التأثير ما كان فاقداً لذلك الشرط، وهذا أيضاً تخصيصٌ للعام[1].
[1] لقد أجاد فيما أفاد، ويوافقه كلام سيدنا الأستاذ، فاللّه يرحمهما برحمته الواسعة. وينبغي التنبيه على أمور:
الأمر الأوّل: إنّه لمّا كان اهتمامه بأصل المطلب، لم يتعرّض لبعض ما يتعلّق بكلام الشهيدين، واكتفى بالإشارة إلى البعض الآخر. وقد نقل الشيخ نصّ عبارة الشهيد الأوّل، أمّا عبارة الشهيد الثاني فقد جاء في ذيلها «وحيث كان الإطلاق محمولاً على الصّحيح لا يبرّ بالفاسد».
ولا يخفى التنافي الموجود في كلام ثاني الشهيدين بين الصّدر والذيل، ففي الصدر يدّعي التبادر وفي الذيل يقول بانصراف الإطلاق. هذا أوّلاً.
وثانياً: إنه يعتبر أنْ يكون التبادر من حاقّ اللّفظ، لكنّ الظاهر من كلام الشّهيد الثاني ـ في المسالك والروّضة، في مسألة اختلاف المتبايعين، حيث قال: يقدّم قول البائع، لأصالة الصحّة(1) ـ أنّ دعوى الوضع للصحيح مستندة إلى قاعدة حمل فعل المسلم على الصّحة، فلا يكون التبادر ناشئاً عن حاقّ اللّفظ. فتدّبر.
وثالثاً: إنه إنْ تمّ ذلك بالنسبة إلى الصحيح، فلا ينافي كون الفاسد موضوعاً له أيضاً. وهذا ما أورده الميرزا القميّ على المسالك قال: عدم صحة السّلب عن الصحيح لا يثبت المجازيّة في الفاسد، لأنّا لا ننكر كونه حقيقةً في الصحيح، إنما الكلام في الاختصاص وهو لا يثبته(2).
لكنّ هذا الإشكال يتوجّه على ما في نسخة المسالك من «عدم صحة السّلب» لكن في عبارة الشيخ قدّس سرّه «صحة السّلب»، ولعلّه وجد بعض نسخ المسالك كذلك، وعليه، فلا مورد له.
هذا كلّه بالنسبة إلى أدلّة القول الأوّل، وهو الوضع لخصوص الصحيح.
وذهب السيّد إلى القول الثاني بقوله: لا ينبغي التأمّل في كون «البيع» بل سائر المعاملات، أعم من الصحيح الشرعي، كيف وإلاّ يلزم القول بالحقيقة الشرعيّة أيضاً، وهو في غاية البعد. وما ذكره المسالك من التبادر وصحّة السّلب ممنوع، وحمل الإقرار على الصحيح لمكان الإنصراف، مع أن صحّة التقسيم يدلّ على الأعميّة، ودعوى المسالك كونها أعمّ كما ترى، إذ هو إنّما يصحّ باعتبار نفس المفهوم والمعنى، لا بحسب ما اُطلق عليه اللّفظ ولو مجازاً، كما هو واضح.
بل أقول: الظّاهر أنه أعم من الصحيح العرفي أيضاً، بمعنى أنّ الفاسد في نظر العرف أيضاً بيع، فكلّ تمليك عين بعوض مع التعقّب بالقبول، بيع، سواء أمضاه العرف والشرع، أم لا، وهذا واضحٌ جدّاً(3).
وقال سيّدنا الاستاذ: استدلّ للثاني بصحّة التقسيم.
واُجيب: بأنّه اُعمّ من الحقيقة والمجاز.
وفيه: إنّ ظاهر التقسيم ـ في أيّ مورد ـ كونه على الحقيقة، إذ التقسيم لا يناسب التجوّز.
فالحق: إن الإلتزام بالقول الأوّل مشكل(4).
الأمر الثاني: قالوا(5) إن توجيه الشيخ ما ذهب إليه الشهيدان، مأخوذ من كلام المحقّق التقي في حاشية المعالم في مسألة الصحيح والأعم، فإنه بعد ما نقل عن الشهيدين كلامهما كما تقدم قال: «فالأظهر أنْ يقال: بوضعها لخصوص الصحيحة، أي المعاملة الباعثة على الآثار المطلوبة منها، وإطلاقها على غيرها ليس إلاّ من جهة المشاكلة أو نحوها، على سبيل المجاز، لكنْ لا يلزم من ذلك أنْ يكون حقيقة في خصوص الصحيح الشرعي، حتى يلزم أنْ تكون توقيفيّة متوقّفة على بيان الشارع لخصوص الصحيحة منها، بل المراد منها إذا وردت في كلام الشارع قبل ما يقوم دليل على فساد بعضها، هو العقود الباعثة على تلك الآثار المطلوبة في المتعارف بين الناس، فيكون حكم الشارع بحلّها أو صحّتها أو وجوب الوفاء بها قاضياً بترتّب تلك الآثار عليها في حكم الشرع أيضاً، فيطابق صحّتها العرفية والشرعيّة، وإذا دلّ الدليل على عدم ترتّب تلك الآثار على بعضها، خرج ذلك عن مصداق تلك المعاملة في حكم الشرع وإنْ صدق عليه عند أهل العرف، مع فرض اتّحاد العرفين وعدم ثبوت عرف خاص عند الشارع، إذ المفروض اتّحاد المفهوم منه عند الجميع، وإنما الإختلاف هناك في المصداق، ولو انكشف عدم ترتّب الأثر عليه عند أهل العرف لا من قبل الشارع، لم يحكم عرفاً بصدق ذلك عليه أيضاً، كما أن البيوع الفاسدة في حكم العرف خارجة عندهم عن حقيقة البيع. فظهر أنه لا منافاة بين خروج العقود الفاسدة عند الشّارع عن تلك العقود على سبيل الحقيقة، وكون المرجع في تلك الألفاظ هو المعاني العرفيّة، من غير أن يحقّق هناك حقيقة شرعيّة جديدة، فتأمّل جيداً»(6).
أقول: وأنت إذا وقفت على هذا النصّ ونظرت في ما أفاد السيّدان الجدّ والأستاذ، وجدت كلامهما هو البيان الصحيح لمرام الشيخ الأعظم وصاحب الحاشية، قدّس اللّه أسرارهم.
الأمر الثالث: الظاهر أنّ الإطلاق الذي وجّه الشّيخ التمسّك به، هو الإطلاق اللّفظي، وقال المحقق الخوئي: بأنه إطلاق مقامي، ثم أورد عليه: بأنه إنما يجوز التمسّك بالإطلاق المقامي فيما إذا لم يكن للمطلق أفراد متيقّنة، وإلاّ فينصرف إليها الإطلاق من دون أنْ تلزم اللغوية من الإهمال. ومن البيّن أن مقامنا من هذا القبيل، لأنا كشفنا من مذاق الشارع كشفاً قطعيّاً ـ ولو من غير ناحية الإطلاقات الواردة في إمضاء العقود ـ أن بعض ما هو سبب للبيع عرفاً مؤثّر في الملكيّة جزماً. وإذن، فلا يبقى مجال للتمسّك بالإطلاق المقامي صيانةً لكلام الشارع عن اللّغويّة(7).
لكنْ لا مجال للإيراد المزبور، لأنّ الشيخ لا يريد الإطلاق المقامي.
ويبقى الإشكال على الشيخ في أصل المبنى في الملكيّة، وقد أشار السيّد الجدّ تبعاً للمحقق اليزدي(8) إلى منعه، وأنّ الصحيح أنها لا واقع لها إلاّ الاعتبار.
وكذا الإشكال عليه في وضع ألفاظ العقود، فإنّ الصحيح كونها موضوعةً للأعم، ولذا قال سيّدنا الأستاذ: إن الحق أن الالتزام بالقول الأول مشكل(9).
وقال شيخنا دام بقاه: لأنّ المراد من الموضوع له هو المصداق لا المفهوم، لأنّ المصداق هو القابل للاتّصاف بالصّحة والفساد، وهذا المصداق إمّا خصوص الصحيح وإمّا الفاسد وإمّا الأعم منهما، لكنّ الواضع ليس بمهمل ولا مجمل، وإذْ لا دليل على الخصوص فالإطلاق.
الأمر الرابع: قد ذكر الشيخ في مباحث الألفاظ رأي المحقّق التقي المزبور، وأشكل عليه ثم قال: ولعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمراً(10) لكنه وافقه في مكاسبه.
أقول: قد ألّف الشيخ كتاب المكاسب بعد الرسائل، وهو يحيل إلى مباحث الظّن والقطع في مواضع من مطارح الأنظار. فليتدبّر.
(1) مسالك الأفهام 1 / 186، الرّوضة البهّيّة 3 / 541.
(2) قوانين الاصول 1 / 52.
(3) حاشية المكاسب 1 / 315.
(4) بلغة الطالب: 49.
(5) حاشية اليزدي 1 / 319، بغية الطّالب 1 / 44.
(6) هداية المسترشدين في حاشية معالم الدين: 113 ط الحجريّة.
(7) مصباح الفقاهة 2 / 84.
(8) حاشية السيد اليزدي 1 / 320.
(9) بلغة الطالب: 50.
(10) مطارح الأنظار: 4 ـ 5 ط الحجرية.