مقدّمة الكتاب
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد للّه ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على محمّد وآله الطّاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين من الأوّلين والآخرين.
أما بعد
فإنّ شرف علم الفقه لا يخفى وفضله لا ينكر، وقد كانت أحكام المعاملات من اُولى إهتمامات فقهاء الطّائفة منذ القديم.
فلمّا ألَّف علاّمة الآفاق واستاذ الكلّ على الإطلاق، آية اللّه العظمى الحاج الشيخ مرتضى الأنصاري ـ تغمّده اللّه بغفرانه وأسكنه فسيح جنانه ـ كتابه المعروف بـ«المكاسب»، أصبح هو المحور للدراسات العليا في فقه المعاملات، من قبل كبار الفقهاء في الحوزات العلميّة، وما أكثر الكتب المصنَّفة في شرحه والتعاليق المطوّلة والموجزة عليه.
وكان جدّنا الفقيه العظيم، والمحقق المدقّق الفذ، والمرجع الديني الكبير، آية اللّه العظمى السيّد محمّد هادي الميلاني طاب ثراه، قد حضر هذا البحث في النجف الأشرف على أُستاذي الفقهاء والمجتهدين، آية اللّه العظمى الشيخ ميرزا محمّد حسين النائيني الغروي، المتوفى سنة 1355، وآية اللّه العظمى الشيح محمّد حسين الإصفهاني الغروي، المتوفى سنة 1361.
ثم إنّه درّس هذا البحث ـ بدوره ـ في النجف الأشرف، وحضر أبحاثه هناك جماعة كبيرة من فضلاء الحوزة العلميّة، الذين أصبح كثير منهم فيما بعد، من كبار المراجع ومشاهير الأعلام والأساتذة المرموقين.
ولو أنه بقي في النجف الأشرف واستمرّ في أبحاثه الفقهيّة والاُصولية وغيرها، لتقدّم على جميع أقرانه، وكان الاستاذ الأعظم والمرجع الأعلى، كما سمعت من غير واحد من أساتذتي، كآية اللّه العظمى الميرزا محمّد كاظم التبريزي وآية اللّه الشيخ مجتبى اللّنكراني رحمة اللّه عليهما.
ولكنّه انتقل إلى كربلاء المقدّسة في سنة 1356، وكان مجلس درسه في تلك الحوزة أيضاً عامراً بفضلائها في ذلك الوقت، حيث درّس الفقه والاصول والتفسير وغيرها.
ثم انتقل إلى مشهد الرّضا عليه السّلام، في سنة 1373، فكان أحد المراجع العظام، وزعيم الحوزة العلميّة بها، والملاذ الأكبر للاُمّة في الحوادث السياسيّة والإجتماعيّة الرّاهنة.
* * *
أمّا مرجعيّته، فقد قال بأعلميّته غير واحد من الأعلام المرجوع إليهم والمسموع قولهم في مختلف الأوساط، كالعلاّمة الطباطبائي صاحب (الميزان في تفسير القرآن) رحمة اللّه عليه، وآية اللّه العظمى الشيخ محمّد تقي البهجة حفظه اللّه، وغيرهما، وهكذا جماعة كبيرة من الفضلاء في الحوزة العلميّة وخارجها… ممّا أدّى إلى إقبال الناس عليه، يطلبون منه الرسالة العمليّة، حتى أذن بتجديد طبع رسالته، فانتشرت في البلاد ورجع إليه أهالي منطقة خراسان، ثمّ امتدّت مرجعيّته إلى سائر المحافظات والمدن، وحتّى قلّده الكثيرون من الشيعة في البلاد المجاورة، كأفغانستان وپاكستان والعراق وسائر البلدان، وجاءت الحقوق الشرعيّة من المقلّدين، وشرع في المشاريع التي جرت بأمره.
وهكذا، فقد أصبح الزعيم الأكبر في الشئون الدينيّة بالمفهوم العام، إذْ لم تقتصر جهوده على تأسيس المدارس والمعاهد الدينيّة فقط، بل أسسّ أو شيّد كثيراً من الحمّامات والمغتسلات والمستوصفات، إلى جنب المساجد والحسينيّات، في مختلف المناطق، وحتى في قضايا الزلازل التي وقعت في البلاد أكثر من مرّة في عهده، فإنّه قد أوعز إلى بعض مقلّديه بالمبادرة إلى إعادة بناء ما هدمته أو أصابته الزلازل من دور السّكن وغيرها.
إلاّ أنه قد أولى الاهتمام البالغ بالحوزة العلميّة، بتأسيس المدارس فيها أو تجديد بناء بعضها، وقد جعل للدروس في مدارسه برامج خاصّة، يدرّس فيها الطلاّب مختلف العلوم الإسلاميّة، ويختبرون، ويشجَّع المشتغلون بالرواتب والجوائز الماديّة والمعنويّة، ولقد كان طاب ثراه، محبّاً لأهل العلم المشتغلين، معتنياً بأمر المجدّين منهم، متفقّداً لأحوالهم التفقّد الأبوي بحنان ولطف.
ثم إنه عزم على دعوة العلماء الأعلام للإقامة في مشهد والتدريس في الحوزة العلمية، حتى تزدهر وتنشط الدراسة أكثر فأكثر، وقد كان من أشهر من دعاهم واستجاب:
1 ـ شيخنا آية اللّه العظمى الوحيد الخراساني.
2 ـ آية اللّه الشيخ علي الفلسفي.
3 ـ آية اللّه الشيخ علي المشكيني.
ولا يخفى ما كان لتواجد هؤلاء الأعلام في الحوزة العلميّة، من الأثر في الحركة العلميّة وتوجّه العلماء والفضلاء وإقبالهم عليها.
لقد اهتمّ بأمر الحوزة العلميّة اهتماماً بالغاً، خدمةً للمذهب والعلم والعلماء، وللعتبة المقدّسة الرّضوية، إذ كان يرى أنّ الحوزة تعدّ من شئون العتبة المطهّرة، وأنه كلّما تقدّمت الحوزة وازدهرت، إزداد مشهد الإمام عليه السّلام شوكةً وعظمةً وجلالةً، وقد سمعت منه هذا المعنى أكثر من مرّة.
وليس الدّرس فقط، فقد اهتم كثيراً بالجانب العقيدي والتربوي، فقد كان ـ بالإضافة إلى المعاشرة مع الطلاّب بالآداب السّامية والأخلاق الفاضلة، ليكون قدوةً لهم ـ يلقي عليهم في المناسبات محاضرات توجيهيّة، ولا زالت تعاليمه موجودةً في الأذهان إلى هذا الزّمان.
* * *
واشتهر السيّد الجدّ طاب ثراه بالمرابطة والمحافظة على حدود الشريعة المقدّسة، في اُصولها وفروعها وسننها، وخاصّةً في مجال الاصول الاعتقاديّة، وبالأخصّ فيما يتعلّق بمقامات ومنازل أهل البيت والعترة النبويّة المطهّرة، وتلك فتاواه ضدّ بعض الأفكار المضلّلة من بعض المعمّمين وغيرهم، موجودةً في الوثائق التاريخيّة الخالدة.
وكذلك فيما يتعلّق بالقوانين الوضعيّة المخالفة للشّريعة المقدّسة، التي حاولت الحكومة آنذاك تطبيقها في البلاد، فقد صَمَد طاب ثراه في مقابلها وتحمّل أنواع الأذى والمضايقات للحيلولة دون وصول الحكومة إلى مآربها.
لقد سمعنا منه مراراً قوله: علينا أنْ نقف أمام ترويج الأباطيل والمنكرات في هذا البلد المتعلّق بأهل البيت والإمام المهديّ المنتظر أرواحنا فداه.
وبالفعل، فقد وفّق كثيراً، وسدّد اللّه تعالى خطاه على طريق الحق والدفاع عن الدين.
إنه كان دائماً يستمدّ العون من الإمام عجّل اللّه فرجه، ويأمر بالتوسّل به في كلّ الأوقات، وكانت رعايته عليه السّلام له مشهودةً في كافّة المجالات.
* * *
ومن الألطاف الرّبوبيّة وعنايات الأئمة الأطهار في حقّه، ما كان عليه طاب ثراه من الكمالات المعنويّة والحالات الرّوحيّة، فتلك قضيّته مع شيخنا آية اللّه الحاج الشيخ مرتضى الحائري اليزدي، فقد سمعتها من شيخنا مشافهةً، وهي موجودة بخطّه في مذكّراته.
كما أنّ له معي أيضاً قضيّة مشابهة لها.
وتلك قضيّته مع من حضر عنده في حال الجنابة، وقد تكرّر ذلك، فإنّه كان يذكّرهم، وقال لأحدهم في غرفته الخاصّة: إنّ الملائكة لتهبط إلى هذا المكان وتروح، لكونه محلاًّ لمذاكرة القرآن وروايات المعصومين، من أجل استنباط الأحكام وهداية الناس، فما كان ينبغي لك أنْ تحضر هنا بهذه الحال.
وتلك قضيّته مع زائر من زوّار الإمام عليه السلام، قد قضى ليلته في القطار بالفسق والفجور، فلمّا وصل إلى مشهد، انتبه من غفلته وندم على ما فرّط، فاغتمّ لذلك بشدّة، ولم يدخل الحرم حتى المساء، خجلاً من الإمام عليه السّلام، فلمّا حضر الصّلاة، في الصّحن الشريف خلف السيّد الجدّ، وجاء بعد الصّلاة للسّلام عليه، خاطبه السيّد بقوله: أنت محبوب عند الإمام عليه السّلام لأنّك جئت لزيارته وهو يحبّ زوّاره، غير أنّ عملك كان سيّئاً وأنت نادم عليه وتائب منه، فادخل الحرم ولا بأس عليك.
وهذه نبذة من كراماته الباهرة، علمنا ببعضها في أيّام حياته، وما كنّا نتحدّث بها لعدم رضاه بذلك.
وبهذا نكتفي في التعريف به طاب ثراه(1).
* * *
وأمّا كتاب البيع… .
فلقد درّس طاب ثراه في الحوزة العلميّة بمشهد المقدّسة:
كتاب الإجارة
وكتاب الصّلاة
وكتاب الزكاة
وكتاب الخمس
على كتاب «شرائع الإسلام» للمحقّق الحلّي.
ثمّ درّس كتاب البيع، على كتاب «المكاسب» ولكنّه لم يتم كما سيأتي.
وقد كان كتاب البيع آخر أبحاثه، وكان قد وعد تلامذته بتدريسه إجابةً لطلبهم، ولذا قال في أوّل البحث: كنت قد وعدت غير مرّة بالبحث في المعاملات وفي خصوص البيع من المكاسب للشيخ الأعظم قدّس سرّه، فهذا أوان الوفاء بالوعد والشّروع في بحث البيع، وأحمد اللّه على التوفيق وأستخيره في ذلك.
وكان الشّروع فيه في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول سنة 1391.
وجعل عنوان البحث ـ كما ذكرنا ـ كتاب البيع للشيخ الأعظم، فهو أوّلاً يشرح عبارة الشيخ ويقرّر مراده، بأدب رفيع وتواضع جميل لمكانة الشيخ العلميّة، وربّما ألجأته المحافظة على مقام الشّيخ والإحترام له، إلى توجيه كلامه وحمل عبارته على خلاف ما هي ظاهرة فيه، قائلاً: إنّ مقام الشيخ يقتضي أنْ يكون مراده كذا لا كذا وإنْ كان ظاهر عبارته.
ثم يتعرّض لكلمات الأكابر حول كلام الشيخ وغيره بالبحث والنقد، فإذا ما أراد أنْ يشكل على الشيخ أو أحد منهم قال: «هذا سهو من قلمه» أو «لا يمكن المساعدة عليه»، وربما اقترن ذلك بقوله: «إنه كبير ونحن صغار بالنسبة إليه ولكنْ ماذا نفعل»! بل قد وجدناه إذا أراد الردّ على الكلام لا يصرّح باسم قائله، حفظاً لعلوّ مقامه ورفعة مكانته.
إن الأكابر الذين يتعرّض السيّد الجدّ لآرائهم من المتأخّرين عن الشيخ الأعظم هم:
1 ـ الشيخ حبيب اللّه الرشتي، بتقرير تلميذه الإشكوري.
2 ـ الشيخ محمّد حسن المامقاني، صاحب «غاية الآمال» وهو جدّه لاُمّه.
3 ـ الشيخ محمّد كاظم الخراساني، في تعليقة المكاسب، ويعبّر عنه بـ«المرحوم الآخوند».
4 ـ السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي، في حاشية المكاسب، ويعبّر عنه بـ«المرحوم السيّد».
5 ـ الشيخ ميرزا محمّد حسين النائيني، ويعبّر عنه بـ«الميرزا الاستاذ».
6 ـ الشيخ محمّد حسين الإصفهاني، ويعبّر عنه بـ«شيخنا الاستاذ».
وهذان الأخيران هما استاذاه في الفقه والاصول.
والجدير بالذكر، أنّ ظاهر كلامه أحياناً ـ لدى النقل عن أحد استاذيه رأياً ـ هو الحكاية عنه مباشرةً، كقوله في بعض الموارد: «وكان الاستاذ يقول… وكنّا نشكل عليه» ممّا يدلّ على استحضاره لمطالب مشايخه.
وكم كان يعتزّ بهم، خاصّةً باُستاذه الشيخ الإصفهاني، فإنّه كان يعتني بأقواله، ويراجع حاشيته على المكاسب، وكان يحتفظ بنسختين منها، وقد قال لي يوماً: «إنّ لي ـ والحمد للّه ـ مطالب في المكاسب لم يتعرّض لها الشيخ الاستاذ»، فكأنّه كان يحمد اللّه على أنْ وفَّقه للاستدراك على إفادات شيخه في مباحث البيع.
* * *
قلنا: إنه كان طاب ثراه محبّاً لأهل العلم المشتغلين، معتنياً بأمر المجدّين منهم، متفقّداً لأحوالهم… هذا بالنّسبة إلى سائر الناس، فكيف بتلامذته؟
وأمّا بالنسبة إلى أهل العلم من أحفاده، فقد تضاعفت رعايته وعنايته المعنوية والماديّة… .
لقد كنت في أيّام الصّيف ـ في أغلب السنّين ـ في خدمته، ولكنّها كانت أسفاراً قصيرةً، فلمّا اضطربت أوضاع حوزة النجف الأشرف، وخاصّةً بعد وفاة آية اللّه العظمى السيد محسن الحكيم رحمة اللّه عليه سنة 1390، وتعطّلت الدروس، سافرت إلى مشهد المقدّسة، وفي هذه المرّة طال المكث عنده، فكنت أحضر بحثه، وأستفيد منه الكثير من الفوائد العلميّة، وأتعلّم منه الأخلاق الكريمة، إذا سألته أجابني، وفي كثير من الأوقات كان يبتدأني، فيفيض عليَّ من علمه، أو يمتحنني بسؤال، أو يأمرني باستخراج مطلب في مكتبته، أو باستنساخ مكتوب من مكاتيبه، فكان قد عرف عنّي من مجموع تلك الاُمور شيئاً أصبح السّبب في شدّة عنايته بي ورعايته لي، حتى أنه قال لي غير مرّة: «أتمنىّ أنْ تبقى عندي» وقال لغير واحد من الأشخاص من الاُسرة وغيرها: «الأمل في هذا الولد كبير».
ولقد انعكست عنايته بي في مكاتيبه إليّ(2):
فلقد جاء في أحدها: «إني أذكرك في قلبي كثيراً ولك سهمٌ في غالب أدعيتي، خبّرني عن أحوالك واُمورك باستمرار».
وفي كتاب بتاريخ شهر رمضان سنة 1384، يوصي بالبرّ بالوالدين:
وفي كتاب أرسله بتاريخ 2 ذي القعدة الحرام سنة 1386، يوصي بالمداومة على صلاة اللّيل:
وكان يمدّني بالكتب التي أحتاج إليها أو تنفعني في سبيل التحصيل:
وكتب إليّ لمّا رجعت من حجّ بيت اللّه الحرام:
وهذا كتاب آخر أرسله إليَّ في 18 ربيع الأوّل سنة 1390، وهو من أحسن المكاتيب التوجيهيّة الراقيّة:
«إن العمدة في استكمال مراتب الفضيلة أربعة أشياء:
الأول: المعارف الآلهيّة.
والثاني: التقوى.
والثالث: الفقه والاصول.
والرابع: مكارم الأخلاق.
فإنّ اجتماع هذه الأركان الأربعة في غاية الأهميّة، وهو المستعان سبحانه وتعالى.
وإنّ الدعاء والتوسّل بمقام الولاية وطلب العناية المباركة لوليّ العصر أرواحنا فداه، هي الوسيلة العظمى لنيل تلك الأركان الأربعة. إن شاء اللّه تعالى».
* * *
وبالأخرة… دعاني إلى مشهد والكون بخدمته.
فقد كنت في النجف الأشرف، وأنا متهيّؤٌ منذ مدّة لحضور بحث الخارج على أعلامها، لكن الأوضاع مضطربة والأفكار مشوّشة، وكان أهلي يفكّرون لي بالزّواج، وربّما خطبوا من بعض البيوت، وإذا بكتاب من السيّد الجدّ إلى السيّد الوالد بتاريخ 6 صفر سنة 1393 يقول فيه: «إنْ كان في زواج السيّد علي أو السيّد علي الأصغر تأخير، فمن المستحسن أنْ يأتي إلى المشهد المقدّس ويدرس هنا ويكون عوناً لي. وقد وصلني الكتاب الذي أرسله(3)، وسررت بذلك. دام بقاه إن شاء اللّه تعالى».
فلمّا وصل هذا الكتاب، بادرت إلى السّفر إلى إيران، ووصلت إلى محضره الشّريف في شهر ربيع الثاني سنة 1393.
فرحّب بي أيّما ترحيب… .
وقرّر طاب ثراه أنْ أكون له معيناً في شئونه العلميّة فقط.
فكان كلّما أراد أنْ يطالع للدّرس أو يجيب عن استفتاء، حضرت عنده، فكان تخريج كلّ ما يحتاج إليه من الرّوايات وأقوال الفقهاء على يدي، وإذا أراد مفهوم كلمة رجعت إلى كتب اللّغة وأخرجت له كلمات اللّغويين، وإذا أراد ترجمة راو من الرواة، أخرجتها له من الكتب الرّجالية وقرأت عليه آراء علماء الرجال فيه، وهكذا… فكان يسجّل خلاصة مطالعته وتحضيراته للدرس في أوراق تحت يده، وتلك الأوراق كلّها ـ أو جلّها ـ محفوظة الآن، وكذا أجوبة الاستفتاءات المفصّلة التي أمر باستنساخها والاحتفاظ بها.
وهكذا، فقد كنت بخدمته هذه المرّة، من أوائل السنة الدراسيّة 1393، إلى أنْ مرض رحمه اللّه، وتعطّل الدرس في شهر ربيع الثاني وكان بحثه في مسائل بيع الفضولي.
وما طال مرضه إلاّ شهوراً قلائل، حتى توفي في آخر شهر رجب عام 1395.
ثم إنّه ـ طاب ثراه ـ لمّا تعطّل الدرس، وكأنه كان عالماً بدنّو أجله، قال لي في بعض الأيّام: «إني وإنْ كنت اُحبّ أنْ تكون عندي، لكن مواصلة الدرس أهم، وأخشى أن يضيع وقتك هنا، فالأولى أن تذهب إلى قم».
فنزلت مدينة قم المقدسّة، بعد أنْ تهيّأت لي دار للسّكن مستأجرة لمدّة قليلة بأمر من السيّد الجدّ، وقد جعل لنا راتباً شهريّاً:
* * *
لقد حضرت في حوزة قم الكبرى على أعلام الطّائفة وأساطين العلماء في الفقه والاصول، من كبار المراجع وغيرهم، وهم:
1 ـ آية اللّه العظمى السيّد محمّد رضا الگلپايگاني قدّس سرّه.
حضرت عليه في الحجّ والبيع والقضاء والشهادات والحدود.
وقرّرت بحثه في البيع، ودوّنته حاشيةً على المكاسب، وطبع باسم (بلغة الطالب في التعليق على بيع المكاسب) إلى آخر المعاطاة، في مجلّد واحد.
ثمّ قرّرت بحثه في القضاء والشهادات، وطبع بأمر منه كذلك، في ثلاث مجلّدات.
2 ـ آية اللّه العظمى الشيخ حسين الوحيد الخراساني دام ظلّه.
حضرت عليه دورةً كاملةً في الاصول.
وفي الفقه: حضرت عليه في أبواب كثيرة من العبادات والمعاملات، كإحياء الموات والمكاسب المحرّمة والطّهارة والصّلاة والبيع والخيارات، وبعض القواعد الفقهيّة.
ثم درّست الاصول وطبع منه حتّى الآن مباحث الألفاظ في أربع مجلّدات.
3 ـ آية اللّه العظمى السيّد محمّد الروحاني قدّس سرّه.
حضرت عليه في الاصول.
4 ـ آية اللّه العظمى الشيخ ميرزا محمّد كاظم التبريزي، قدّس سرّه.
حضرت عليه في الفقه.
5 ـ آية اللّه العظمى الشيخ مرتضى الحائري اليزدي، قدّس سرّه.
حضرت عليه في الخيارات.
وبما ذكرت ظهر: أنّي حضرت في البيع على السيّد الجدّ والسيّد الگلپايگاني والشّيخ الوحيد، إلا أن حضوري على شيخنا كان إلى آخر الكتاب.
ولقد طرحت أنظار السيّد الجدّ في بحث شيخنا دام بقاه، ودخلت في كتابات فضلاء الدّرس، واهتمّ بها الكثيرون منهم، فكنت من ذلك الوقت أشتغل على مطالب السيّد الجدّ واُمعن النّظر فيها، واُضيف إليها ما استفدته من أبحاث سيدنا الاستاذ الگلپايگاني وشيخنا الاستاذ الوحيد، وما لم يتعرَّض له السيّد الجدُّ من مطالب الأكابر، وما في بعض الحواشي الاخرى كحاشية المحقق الإيرواني، وأنظار المحقق الخوئي من مصباح الفقاهة.
وخرّجت في الهوامش ما جاء في بحثه من الآيات والأخبار والأقوال، ووضعت له العناوين، ورتّبته ونقّحته بالإصغاء إلى أشرطة البحث من جديد.
فلما وصلت إلى آخر المعاطاة، وجدته قد اكتمل جزءً، يصلح لأنْ ينتشر، فقدّمته للطّبع، خدمةً للعلم وأهله، وأداءً لبعض حقوق السيّد الجدّ وإحياءً لذكره، وتقديراً مني لما بذله من جهد في تعليمي وتربيتي.
وأسأل اللّه العليّ القدير أنْ يوفقني لإتمام هذا العمل، وأن يتقبّله بأحسن القبول. والحمد للّه رب العالمين.
قم المقدّسة
علي الحسيني الميلاني
(1) ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتاب «علم وجهاد» تأليف عمّنا العلاّمة الحجة السيد محمّد علي الميلاني المطبوع في جزئين.
(2) اقتصرت منها على محلّ الحاجة، ولا يخفى أنها كلّها معنونة بعنوان «قرّة عيني» وكان اسمي «علي الأصغر» لوجود أخ لي اسمه «علي الأكبر» حفظه اللّه، لكنهم خاطبوني فيما بعد بـ«علي» وبهذا عرفت في سائر الأوساط.
(3) أرسلت إليه دفتراً شرحت فيه قول المحقق الحلّي في شرائع الاسلام في غسل الأموات «وأقلّ ما يلقى في الماء من السّدر ما يقع عليه الاسم» في أكثر من خمسين صفحة، وكتاب (الإمام الثاني عشر) تأليف العلاّمة الحجة السيّد محمّد سعيد آل صاحب العبقات، الذي قدّمته للطبع بمقدّمة وتعاليق واستدراكات قيّمة، في النجف الأشرف.