[1] قد ظهر ممّا أفاده السيّد الجدّ قدّس سرّه أنّ الأصحاب في حقيقة الملكيّة على قولين:
الأوّل: إنها أمر انتزاعي، ومنشأ الانتزاع هو الحكم التكليفي. وهذا ما ذهب إليه الشيخ في أصوله(1) وقال هنا: هي نسبة بين المالك والمملوك، فتكون نسبة انتزاعيّة.
وأورد عليه شيخنا دام بقاه:
أوّلاً: إنّ هذا القول لا دليل عليه بل الدّليل على خلافه، فقد جاء في الأدلّة الشرعيّة جعل الملكيّة ولا منشأ لانتزاعها، مثل: من حاز ملك(2).
وثانياً: قد جعل الملك في بعض الأدلّة موضوعاً لحكم شرعي، والموضوع مقدّم رتبةً على الحكم، مثل الخبر: لا يحلّ مال امرىء مسلم إلاّ بطيب نفسه. فلو كانت الملكيّة منتزعة ـ والأمر الإنتزاعي متأخر رتبةً عن منشأ الانتزاع ـ لزم أنْ يكون الشيء الواحد متقدّماً تارةً، ومتأخّراً أخرى.
القول الثاني: إن الملكيّة أمر اعتباري، وهذا قول الأكابر، عدا الشّيخ الأعظم، وقد اختلفت أقوالهم:
1 ـ قال المحقق النائيني قدّس سرّه: «وحاصل الكلام: إن الملكيّة عبارة عن إضافة حاصلة بين المالك والمملوك، وهي عبارة أخرى عن الجدة، غاية الأمر أن الجدة الحقيقيّة والواجديّة الواقعيّة هي مخصوصة بمن له ملك السّماوات والأرض، فإنه هو الذي يقدر على الإيجاد والإعدام، فهو الواجد الحقيقي، والتعبير عن هذه الجدة بالإضافة الإشراقيّة يرجع إلى هذا المعنى. وكيف كان، لا شبهة أنّ من أعلى مراتب الجدة هذه الواجدية… وأمّا الملكيّة الاصطلاحيّة التي هي احدى المقولات، فهي أضعف رتبةً وأنزل درجةً من الجدة الحقيقيّة. وأمّا الجدة الاعتباريّة، فهي أضعف من المرتبتين السابقتين، ولكن لها نحو تحقق في عالم الاعتبار، وتكون منشأً للآثار…»(3).
وقد أورد عليه السيّد الجدّ طاب ثراه بما عرفت، ويضاف إلى ذلك: أن جعل ملكيّة مالك السّماوات والأرض جلّ جلاله من مقولة الجدة، غريب جدّاً.
2 ـ قال المحقق العراقي: إن الملكيّة أمر اعتباري متقوّم بالاعتبار من المعتبر حدوثاً، غير متقوّم به بقاءً بل هو باق في عالم الاعتبار، نظير الملزومات الذاتيّة، كما في قوله تعالى: (لَوْ كانَ فيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا)(4)، حيث أنَّ الفساد ملازم لتعدّد الآلهة، ويشهد بعدم حاجة الملكيّة إلى المعتبر بقاءً، أنها بعد الاعتبار تبقى وإنْ مات المعتبر(5).
وأورد عليه: بأنّ الأمر الاعتباري محتاج إلى الاعتبار ومن له الاعتبار، حدوثاً وبقاءً، وقياس الملكيّة على الملزومات الذاتيّة مع الفارق.
3 ـ وقال المحقق الخوئي: حقيقة الملكيّة إنما هي السّلطنة والإحاطة… ولا ريب في أنَّ هذه السلطنة إنما تتعلَّق بالأعيان تارةً وبالأفعال أخرى… بخلاف الحق والحكم، فإنهما لا يتعلَّقان إلاّ بالأفعال(6).
وأورد عليه: بأنّ السّلطنة مباينة للإحاطة، كما يدلّ على ذلك أداة التعدية فيهما.
فظهر: أنّ الصّحيح في حقيقة الملكيّة هو ما اختاره السيّد الجدّ، فإنه الظاهر من الاستعمالات الصحيحة والمرتكز عرفاً وعقلاءً، قال تعالى: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ)(7) وقال: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّام)(8). وفي الحديث: «ليّ الواجد يحلّ عقوبته وعرضه»(9). وقال في التاج: «يقال: وجدت المال وَجداً ووِجداً ووجداناً: أي صرت ذا مال»(10).
قوله:
إلاّ أنّ في جواز وقوعها عوضاً للبيع إشكالاً، من أخذ المال في عوضي المبايعة لغةً وعرفاً، مع ظهور كلمات الفقهاء عند التعرّض لشروط العوضين لِما يصحّ أنْ يكون أجرةً في الإجارة، في حصر الثمن في المال.
أقول:
الإشكال تارةً: من حيث أن «الحق» لا يصدق عليه «المال» عرفاً، بل هما متقابلان. وأخرى: من حيث أن «المال» يختصُّ بالأعيان الخارجيّة(11).
ويندفع الإشكال بكلا الوجهين بأن: إطلاق المال على الشيء، إمّا هو لأجل ميل النفوس إليه وبذل الشيء بأزائه، أو ـ كما قال الراغب(12) ـ لأنه يميل إلى الزوال، وهو ـ على كلّ حال ـ صادقٌ على الحق. ومع التنزّل، فإنّ عبارة المصباح محمولة على الغالب، لأنَّ البيع صادق على مبادلة المال بعوض.
وأشكل شيخنا الميرزا: بأنه لو جاز المبادلة بين الملك والحق، بجعل الأوّل مبيعاً والآخر ثمناً، لزم انقلاب الملك حقّاً والحق ملكاً. والتالي باطل. بيان الملازمة: أن البيع عبارة عن تبديل طرفي الإضافة وخروج كلٍّ من العوضين عن طرفيّته للإضافة إلى من هو له، وصيرورته طرفاً لإضافة الآخر، فإذا وقعت المعاملة بين الملك والحق، صار ما كان طرفاً للملكيّة طرفاً للحق، وما كان طرفاً للحق طرفاً للملكيّة. وهذا خارج عن حقيقة البيع(13).
وفيه:
أولاً: إن أصل المبنى في حقيقة البيع لا يمكن المساعدة عليه. كما تقدّم سابقاً.
وثانياً: إنه يرى أنّ الحقّ مرتبة من الملك. وعليه: فإنّ غاية ما يلزم هو اختلاف المرتبة في طرف الإضافة، ولا محذور فيه أصلاً.
(1) فرائد الأصول: 305 ط الحجريّة.
(2) الظّاهر أنها قاعدة فقهيّة متصيّدة من الأخبار، وليست برواية.
(3) منية الطالب 1 / 3.
(4) سورة الأنبياء: 22.
(5) نهاية الأفكار، القسم 1 من الجزء 4 ص 102.
(6) مصباح الفقاهة 2 / 44.
(7) سورة الطلاق: 6.
(8) سورة المائدة: 89 .
(9) عوالي اللئالي 4 / 72، الرقم: 44 و 45.
(10) تاج العروس 2 / 523.
(11) ذكرهما المحقق الإصفهاني 1 / 57 والإشكال الثاني للمحقق الخراساني كما في تعليقته ص 4.
(12) المفردات في غريب القرآن: 478.
(13) المكاسب والبيع 1 / 93.