رأي المحقق الثاني في تحرير محلّ النزاع
وقد اختلفت الكلمات في توجيه فتوى المشهور:
قوله:
نزّل المحقّق الكركي الإباحة في كلامهم على الملك الجائز المتزلزل، وأنّه يلزم بذهاب إحدى العينين، وحقّق ذلك في شرحه على القواعد وتعليقه على الإرشاد بما لا مزيد عليه.
أقول:
هذا الذي ذكره جامع المقاصد(1) متين في نفسه، فإن الملكيّة المقصودة تقع لكنّها بنظر الشارع غير لازمة مادامت العينان باقيتين، كما يقصد المتبايعان الملكية منجّزةً، والشارع لا يحكم بلزومها بل يقول: «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا فإذا افترقا فلا خيار بعد الرّضا منهما»(2).
ومحصّل كلامه رحمه اللّه: إن المعاطاة في كلمات الفقهاء هي المقصود بها البيع، ولولا ذلك لم يجوّزوا التصرّف مع أنهم قائلون بجوازه، وعليه، فهم يريدون من «الإباحة» معنىً آخر غير المعنى المطابقي لهذه الكلمة. هذا من جهة. ومن جهة أخرى: يقولون بأنها تفيد الملكيّة بمجرّد تلف إحدى العينين، مع أنّ التلف ليس من الأسباب المملّكة، فمرادهم من الإباحة هي الملكيّة من أوّل الأمر. ومن جهة ثالثة: إلاباحة المقولة هنا في جواز التصرّف الذي هو من آثار الملكيّة، ولو نفي الملكيّة انتفى لازمها، وهو الإباحة وجواز التصرّف.
وبهذه الجهات الثلاثة يقول المحقق الثاني: إنّ المراد من الإباحة ليس بالمعنى المصطلح بل هو الملكيّة المتزلزلة، وهذا التزلزل عنه في الخيارات، إذ هناك يفسخ العقد وهو هنا جواز الترادّ، وجوازه موقوف على بقاء العينين، فإذا ذهب إحداهما استحال الترادّ، وسقط الجواز لعدم موضوعه وتستقرّ الملكيّة.
وقد عثرنا على قائل بهذا قبله، وهو العلاّمة في التحرير حيث قال: «الأقوى أن المعاطاة غير لازمة، لكلٍّ منهما فسخ المعاوضة مادامت العين باقية»(3).
لكنّ نسبة هذا القول إلى المشهور بعيدة، إذ لا وجه للتعبير عن الملك المتزلزل بالإباحة مع وضوح التقابل بين مفهوميهما. وأيضاً: فإنّهم لم يعبّروا بالإباحة في موارد الملكيّة المتزلزلة، فلا يقولون بالإباحة في مدّة الخيار في بيع الحيوان، وما لم يفترقا في خيار المجلس، مع ثبوت الملكيّة المتزلزلة هناك، وإذْ لا خصوصيّة للمقام تقتضي التعبير فيه بالإباحة، وعدم تعبيرهم بذلك في موارد الملكيّة المتزلزلة، يظهر أنْ ليس مقصودهم من «الإباحة» الملكيّة المتزلزلة[1].
[1] وفي مصباح الفقاهة: قد اخترع هذا الرأي المحقق الثاني وشيّد أركانه في محكّي تعليقته على القواعد بما لا مزيد عليه، وحمل عليه كلمات القائلين بأنّ المعاطاة تفيد الإباحة. وهذا الرأي وإنْ لم يكن بعيداً في نفسه، إلاّ أنه غريب عن مساق كلمات القائلين بالإباحة(4).
وكلمة «اخترع» ظاهرة في أنه لم يسبقه أحدٌ في هذا القول. لكنك قد عرفت من كلام السيّد الجدّ أنه قد سبقه إليه العلاّمة في التحرير، وقال السيّد: إن كلماتهم مختلفة، فبعضها ناظر إلى ما ذكره الكركي، كعبارة العلاّمة في التحرير… فإنّ هذا الكلام كالصّريح في الملك المتزلزل(5)، لكنّ الشيخ الأعظم ينفي دلالة كلام التحرير على ذلك، ويؤكّد عدم وجود القائل به قبل المحقق الثاني(6) فتدبّر.
ولنورد كلام المحقق الكركي هنا بنصّه:
قال في شرح القواعد: «المعروف بين الأصحاب أنّ المعاطاة بيع، وإنْ لم تكن كالعقد في اللّزوم، خلافاً لظاهر عبارة المفيد، ولا يقول أحد بأنها بيع فاسد، سوى المصنّف في النهاية وقد رجع عنه في كتبه المتأخرة عنها. وقوله تعالى (إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراض مِنْكُمْ) عام إلاّ ما أخرجه الدّليل.
وما يوجد في عبارة جمع من متأخّري الأصحاب من أنها تفيد الإباحة وتلزم بذهاب إحدى العينين، يريدون به عدم اللّزوم في أوّل الأمر وبالذهاب يتحقّق اللّزوم، لامتناع إرادة الإباحة المجرّدة عن أصل الملك، إذ المقصود للمتعاطيين الملك، فإذا لم يحصل كان بيعاً فاسداً، ولم يجز التصرّف، وكافّة الأصحاب على خلافه. وأيضاً، فإن الإباحة المحضة لا تقتضي الملك أصلاً ورأساً، فكيف يتحقّق ملك شخص بذهاب مال آخر في يده؟ وإنما الأفعال لمّا لم تكن دلالتها على المراد بالصّراحة كالقول ـ لأنها تدلّ بالقرائن ـ منعوا من لزوم العقد بها، فيجوز التراد مادام ممكناً، ومع تلف إحدى العينين يمتنع التراد فيتحقّق اللّزوم، ويكفي تلف إحدى العينين، لامتناع الترادّ في الباقي، إذ هو موجب لتبعّض الصفقة والضرر.
وأضاف في حاشية الإرشاد: إن مقصود المتعاطيين إباحة مترتّبة على ملك الرقبة كسائر البيوع، فإن حصل مقصودهما ثبت ما قلنا، وإلاّ لوجب أنْ لا تحصل إباحة بالكليّة، بل يتعيّن الحكم بالفساد، إذ المقصود غير واقع، فلو وقع غيره لوقع بغير قصد وهو باطل، وعليه يتفرّع النماء وجواز وطىء الجارية، ومن منع فقد أغرب.
(1) جامع المقاصد في شرح القواعد 4 / 58 وانظر تعليقة الإرشاد: 333.
(2) وسائل الشيعة 18 / 6، الباب 1 من أبواب الخيار، الرقم: 3.
(3) تحرير الأحكام 2 / 275.
(4) مصباح الفقاهة 2 / 89.
(5) حاشية المكاسب 1 / 329 ـ 330.
(6) كتاب المكاسب 3 / 39 ـ 40.