تحقيق المحقق الإصفهاني في معنى هيئة المفاعلة:
وثالثاً: فإنّ التحقيق ما أفاده الشيخ الأستاذ قدّس سرّه[1] من أنّ ظاهر الصّرفيين هو أن هيئة المفاعلة موضوعة لصدور المبدء من اثنين.
[1] وهذا نصّ عبارته: «… فتبيّن وجه التعبير عن البيع بالمبادلة دون التبديل. هذا بناءً على ما هو المعروف من تقوّم المفاعلة بطرفين.
والتحقيق خلافه، كما تشهد به الاستعمالات الصحيحة الفصيحة القرآنيّة وغيرها، كقوله: (يُخادِعُونَ اللّهَ)(1) (وَمَنْ يُهاجِرْ في سَبيلِ اللّهِ )(2)(يُراؤُنَ)(3)و(نافَقُوا)(4) و(شَاقُّوا)(5)، وقولهم «عاجله بالعقوبة»، و«بارزه بالمحاربة»، و«ساعده التوفيق»، إلى غير ذلك ممّا لا يصح نسبة المادة إليهما، أو لا يراد منها ذلك، بل الظاهر أنَّ هيئة المفاعلة لمجرّد تعدية المادّة وإنهائها إلى الغير، مثلاً: الكتابة لا تقتضي إلاّ تعدية المادة إلى المكتوب، فيقال «كتب الحديث» من دون تعديتها إلى المكتوب إليه، بخلاف قولهم «كاتبه» فإنّه يدل على تعديتها إلى الغير، بحيث لو أُريد إفادة هذا المعنى بالمجرد لقيل «كتب إليه».
وربَّما تدلّ الهيئة المجرّدة على نسبة متعدّية، كقولهم «ضرب زيد عمرواً»، إلاّ أنَّ إنهائها إلى المفعول غير ملحوظ في الهيئة، وإنْ كان لازم النسبة، بخلاف «ضارب زيد عمرواً»، فإنّ التعدية والإنهاء إلى المفعول ملحوظ في مفاد الهيئة، فما هو لازم النسبة تارة ومفاد حرف من الحروف أخرى، مدلول مطابقي لمفاد هيئة المفاعلة، ولذا ربَّما يفهم التعمّد والتقصّد إلى إيجاد المادّة، فيفرّق بين ضارَّ ومضارّ وخدعه وخادعه ونحوهما.
وأمّا ما ذكروه من الأصالة والتبعيّة، فغير صحيح ثبوتاً وإثباتاً، أمَّا في مقام الثبوت، فإنَّه لابدّ من فرض نسبتين، بحيث تكون إحداهما لازماً للأُخرى، وليس «ضرب عمرو زيداً» لازماً خارجياً لـ«ضرب زيد عمراً»، والهيئة الواحدة لها نسبة واحدة مدلولها المطابقي، ومع الوحدة لا أصالة وتبعية; فإنّها فرع الاثنينيّة.
وأمَّا في مقام الإثبات، فلأنَّ الأصالة والتبعيّة في الدلالة فرع الأصالة والتبعيّة في المدلول، وقد عرفت عدمهما، وإنَّما يصح في مثل المفهوم التابع للمنطوق إثباتاً لتبعيته له ثبوتاً، فإنَّ لازم العلّية المنحصرة ـ التي هي مدلول مطابقي للجملة الشرطيّة ـ هو الانتفاء عند الانتفاء.
وأمَّا هيئة التفاعل، فهي أيضاً لا تتكفّل نسبتين، لأنَّ الهيئة الواحدة لها مدلول واحد، نعم، هي نسبة خاصّة لها طرفان، فهيئة التضارب ما يعبّر عن مفادها في الفارسية بقولهم (بهمزدن) وهذه نسبة متقوّمة بطرفين، وبقيّة الكلام في غير المقام(6).
وقال المحقق الخوئي:
«قد سلك بعض مشايخنا المحققين مسلكاً آخر في معنى المفاعلة، وحاصله: أنه قد اشتهر بين الأدباء وغيرهم أن الفارق بين الهيئات المجرّدة، وبين هيئة المفاعلة، إنما هو تقوّم المعنى في باب المفاعلة بطرفين.
إلا أن المستوضح من الكتاب الكريم ومن الاستعمالات الصحيحة خلاف ذلك، كما في قوله تعالى: (يُخادِعُونَ اللّهَ وَالَّذينَ آمَنُوا)(7)، فإن الغرض من الآية الشريفة تصدّي المنافقين لخديعة اللّه وخديعة المؤمنين فقط، وغير ذلك من الآيات الكثيرة الظاهرة في خلاف ما اشتهر بين الناس من معنى المفاعلة.
ويقال في الاستعمالات العرفيّة الصحيحة: عاجله بالعقوبة، وخالع المرأة، وبارزه بالحرب، وساعده التوفيق، وواراه الأرض، وغير ذلك، فإن جميع ذلك بين ما لا تصح نسبة المادّة فيه إلى الاثنين، وبين ما لم يقصد فيه ذلك وإن صحت النسبة المزبورة.
وعليه، فلابدّ من بيان الفارق بين هيئة الفعل المجرّد، وبين هيئة المفاعلة.
وتوضيح ذلك: أن الهيئات المجرّدة لم يلحظ فيها تجاوز المادّة عن الفاعل إلى غيره، بحسب وضع الواضع، بل التجاوز فيها إمّا ذاتي ـ كجملة من الأفعال المتعدية، نظير: ضرب، وخدع، ونصر، ونحوها ـ أو بواسطة الأداة: كما في الأفعال اللاّزمة مثل: جلس، وذهب، وأمثالهما، وقسم من الأفعال المتعدّية، كلفظ: كتب ونظائره، بديهة أن تجاوز المادّة في القسمين الأخيرين إلى غير الفاعل إنما هو بواسطة الأداة، فيقال: جلس إليه، وكتب إليه.
نعم، لا شبهة في أن كلمة «كتب» تدلّ على تجاوز المادّة ـ وهي الكتابة ـ إلى المكتوب فقط، دون المكتوب إليه ـ الذي هو مورد بحثنا ـ وإذا أريد تجاوز تلك المادّة إلى المكتوب إليه، فلابدّ من الاستعانة بكلمة إلى.
وأما هيئة المفاعلة، كخادع وضارب وقامر ونحوها، فإن حيثيّة تعدية المادّة عنها إلى غيرها ملحوظة فيها مطابقة في مقام إفادة النسبة، وهذا بخلاف الأفعال المجرّدة المتعدية، كضرب ونصر وخدع ونحوها، فإن التعدية فيها من ذاتيّات مفادها.
وعليه، فإذا صدر فعل من أحد كان أثره خداع غيره، صدق عليه أنه خدعه. ولا يصدق عليه أنه خادعه إلاّ إذا تصدّى لخديعة غيره، وكذلك الحال في ضرب وضارب، ونصر وناصر، وأشباهها من الأفعال المتعديّة.
ومن هنا يفرّق بين ضار ومضار، فإن سمرة بن جندب لمّا أبى عن الاستئذان من الأنصاري عند الدخول على عذقه من منزل الأنصاري، قال له النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «إنك رجل مضار»(8): أي متصدّ لإضرار الأنصاري. والجواب عن ذلك:
أن هيئة المفاعلة لا تتقوّم إلاّ بصدور الفعل من الاثنين، لما عرفته آنفاً من دلالة المفاعلة على المشاركة في الغالب، وهي أن يفعل الواحد بالآخر مثلما يفعله الآخر به، لكي يكون كلّ منهما فاعلاً ومفعولاً، نحو ضارب زيد عمراً.
ومن الواضح: أن هذا المعنى لا يتحقق بمجرّد تصدّي أحدهما لإيجاد المادّة دون صاحبه، فلا يقال: ضارب زيد عمرواً، أو صارعه، أو جادله، فيما إذا تصدّى زيد لضرب عمرو، أو حربه، أو صراعه، أو جداله، من دون أن يصدر منه أحد هذه الأمور، بل لو لم يصدر الفعل منه ومن صاحبه معاً، لعدّ مثل هذا الاستعمال من الأغلاط الواضحة.
نعم، قد تكون هيئة المفاعلة بمعنى الفعل المجرّد، نحو سافر زيد، وقاتله اللّه، وواراه في الأرض، وبارك في أمره، وأشباه ذلك من الأمثلة.
وقد تكون بمعنى الكثرة والمبالغة. ولعلّ من القبيل الثاني قول النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لسمرة بن جندب: إنك رجل مضّار، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن»(9).
وما ذكروه سهو، فإن صدور المبدء منهما ـ بحيث تدلّ عليه الهيئة ـ منحصر بالتفاعل، وأمّا المفاعلة، فإنّما تدلّ على صدور المبدء من الفاعل متعلّقاً بالغير، ولذا انحصرت صيغة المفاعلة بالأفعال المتعدية.
وبعبارة أخرى: مادة «فَعَلَ» إنما تدلّ على نسبة العرض إلى موضوعه، ولا تدلّ على شيء سواه من الزمان وغيره، بل هي مداليل خارجيّة، وذلك، لأن هذه المادّة تدلّ على الحدث، وهيئتها تدلّ على نسبة الفعل إلى الفاعل، ولذا كان «فَعَلَ» في اللاّزم والمتعدّي معاً، سواء وجد في الخارج ما يقع عليه الفعل أو لا، فهو صادق. نعم، في الأفعال المتعديّة حيث نفهم الوقوع على الغير، يكون من باب أن ذاك الحدث ليس قائماً بنفس الفاعل، بل هو متعدّ منه بصدوره عنه ووقوعه على غيره، ولذا نفهم المفعول به من الخارج بالدلالة الإلتزامية، ولا دلالة للهيئة على ذلك أصلاً.
وهذا المعنى ـ أعني الصّدور من الفاعل والوقوع على الغير ـ هو مدلول هيئة «فاعَلَ»، فإنها نسبة خاصّة بين العرض وموضوعه واقعاً على الغير، ولذا قلنا يكون دائماً من الفعل المتعدّي ولا يكون من اللاّزم، فالهيئة المذكورة موضوعة لهذه النسبة، سواء صدر المبدء ممّن وقع عليه الحدث كذلك أو لم يصدر، ولذا يقال: خاطب زوجته، ظاهر امرأته، قال تعالى: (يُراؤُنَ النّاسَ)(10) سافر زيد، نافق عمرو… إلى غير ذلك من الإستعمالات الصحيحة الفصيحة.
فهذا هو التحقيق، واشتباه الصرفيين ليس بعزيز.
(1) سورة البقرة: 9.
(2) سورة النساء: 100.
(3) سورة النساء: 142.
(4) سورة آل عمران: 167.
(5) سورة الأنفال: 13.
(6) حاشية المكاسب 1 / 10 ـ 11.
(7) سورة البقرة: 9.
(8) الكافي 3 / 414.
(9) مصباح الفقاهة 2 / 27 ـ 29.
(10) سورة النساء: 142.