الكلام في تعريف البيع(1)
قوله:
ثم الظاهر: إن لفظ البيع ليس له حقيقة شرعيّة ولا متشرّعيّة، بل هو باق على معناه العرفي، كما سنوضّحه إن شاء اللّه.
إلاّ أنّ الفقهاء قد اختلفوا في تعريفه: ففي المبسوط والسّرائر والتذكرة وغيرها:
إنتقال عين من شخص إلى غيره بعوض مقدّر على وجه التراضي(2).
وحيث أن في هذا التعريف مسامحةً واضحةً، عدل آخرون إلى تعريفه بـ :
الإيجاب والقبول الدالّين على الانتقال(3).
وحيث أن البيع من مقولة المعنى دون اللّفظ… عدل جامع المقاصد إلى تعريفه بـ :
نقل العين بالصّيغة المخصوصة(4).
ويرد عليه… ولا يندفع… لأنه: إنْ أريد بالصّيغة خصوص «بعت»، لزم الدور، لأنّ المقصود معرفة مادة بعت، وإنْ أريد بها ما يشمل «ملّكت»، وجب الاقتصار على مجرّد التمليك والنقل.
أقول:
أمّا المسامحة في التعريف الأوّل، فلأنّ الإنتقال أثر البيع لا أنه البيع.
وأمّا الإشكال على التعريف الثاني، بأنّ: البيع من مقولة المعنى دون اللّفظ، فلا يتوجّه إنْ أريد البيع المتّحقق من البائع والمشتري بالإنشاء منهما، نعم، يتوجّه النقض بالمعاطاة، حيث اُخذ في التعريف جهة الدلالة، وهي من شئون اللّفظ كما لا يخفى.
وأمّا قوله: إنْ أريد بالصّيغة خصوص «بعت» لزم الدّور، فيمكن دفعه بأنّ المراد هو البيع بما له من المعنى المرتكز أو المتفاهم لدى الغير من أهل العرف[1].
[1] أقول: معنى أنّ لفظ «البيع» ليس له حقيقة شرعيّة ولا متشرعيّة… هو أن المعنى المستعمل فيه اللّفظ في الكتاب والسنّة وكلمات الأصحاب هو نفس المعنى الذي يقصده أهل العرف. لكن المحقّق الطباطبائي قدّس سرّه قال: يمكن دعوى أنّ خصوص الفقهاء اصطلحوا فيه معنىً آخر، وهو العقد المركّب من الإيجاب والقبول، ولذا نسب إلى المشهور تعريفه بالعقد، بل عن العلاّمة دعوى الإجماع عليه، وعنه في المختلف أنّ المتبادر منه ذلك، ويبعد ذلك منه بالنسبة إلى العرف العام، إذ من المعلوم أن المتبادر منه فيه ليس إلاّ النقل المخصوص، فدعواه الإجماع والتبادر كاشفة عن كون مراده ذلك بالنسبة إلى مصطلح الفقهاء في كتبهم الفقهيّة حيث يقولون: كتاب البيع، في مقابل كتاب الصّلح وغيره من العقود… نظير ما ادّعاه في الجواهر من الإجماع على أن النكاح بمعنى العقد، على خلاف سائر المشتقات منه، وهو أيضاً ممنوع بالنسبة إلى العرف العام، وإنْ كان ظاهر صاحب الجواهر ذلك، بل القدر المسلّم منه كونه حقيقة في العقد في خصوص مصطلح الفقهاء…(5).
فأورد عليه سيّدنا الأستاذ طاب ثراه: بأنّ هذه الدعوى ـ وكذا دعوى صاحب الجواهر في لفظ النكاح ـ ممنوعة، فإن إرادة العقد من البيع والنكاح في بعض الأحيان، لا يدّل على النقل والإصطلاح، بل ظاهر بعض عباراتهم عدم إرادة غير المعنى العرفي، والقول بمخالفتهم حينئذ للاصطلاح فيها، كما ترى(6).
وأمّا المسامحة في التعريف الأوّل، فقد بيّن المحقق الإصفهاني الوجه فيها بقوله:
«فإنّ البيع ـ بما له من المعنى ـ أمر يقوم بالبايع لا بالعوضين، فهو إمّا نقل أو تمليك أو تبديل، لا الانتقال والبدليّة، فإنهما يقومان بالعوضين»(7).
وقد ذكر المحقّق الخوئي كلا الوجهين ـ ما أفاده السيّدان الجدّ والأستاذ، وما أفاده المحقق الإصفهاني ـ في المسامحة(8).
فأورد المحقق الإيرواني(9) وتبعه شيخنا دام بقاه: بأنّ النسبة بين النقل والإنتقال هي النسبة بين الإيجاد والوجود، فإنّها إذا لوحظت النسبة إلى الفاعل فهو النقل، وإذا لوحظت إلى العوضين، فهو الانتقال، فلا فرق بين النقل والانتقال إلا في الاعتبار.
ويمكن الجواب: بأنّ ظاهر المستشكلين بما تقدّم أنّهم جعلوا التعريف تعريفاً للبيع الشّرعي الذي يترتّب عليه الأثر، والسبب في ذلك، اشتماله على ما لا دخل له في المفهوم العرفي من «العوض المقدَّر» و«على وجه التراضي»، فالتعريف ناظر إلى الإنتقال المترتّب على البيع ـ وهو فعل البايع ـ ترتّب الحكم على موضوعه.
ويشهد بذلك، أنّ هؤلاء المحققين ملتفتون إلى أن المصدر واسم المصدر واحد في الحقيقة، وأنّهما مختلفان اعتباراً، بل لقد وقع التصريح بذلك بشرح قول الشيخ: «وأمّا البيع بمعنى الأثر وهو الإنتقال» كما سيأتي.
وأمّا التعريف الثاني، فمحصَّل كلام سيّدنا الجدّ ورود ما ذكره الشيخ عليه، لكنّ المحقق الخوئي قال: «هذه المناقشة متوجّهة إلى تعريف المصنّف أيضاً، لأنه أخذ الإنشاء في تعريف البيع»(10).
لكنّه أيضاً قد أخذ الإنشاء في التعريف، إذ قال: «بأنه إنشاء تبديل شىء من الأعيان بعوض في جهة الإضافة»(11).
ثم إنّ المحقق الرشتي ذهب ـ في قبال الشيخ القائل بأنّ البيع من مقولة المعنى ـ إلى أنه لابدّ من أن يكون من مقولة اللّفظ دون المعنى، وإلاّ يلزم كونه كلاماً نفسيّاً، إذْ لا نعقل من كونه من مقولة المعنى إلاّ جعله من باب النقل القلبي، وهو راجع إلى الكلام النفسي، وحيث بُيّن في علم الكلام بطلان الكلام النفسي، فلابدّ من كون البيع من مقولة اللّفظ(12).
وقد استغرب المحقق اليزدي من هذا الكلام وأطال في الجواب عنه(13).
أمّا المحقق الإصفهاني فقال: قد بيّنا تفصيل القول فيه صغرىً وكبرىً في الأصول(14).
وأمّا التعريف الثالث، فقد أشكل عليه الشيخ بوجوه:
الأول: إن النقل ليس مرادفاً للبيع.
والثاني: إن المعاطاة عنده بيع مع خلوّها عن الصيغة.
والثالث: إن النقل بالصيغة أيضاً لا يعقل إنشاؤه بالصيغة (قال الشيخ):
ولا يندفع هذا: بأنّ المراد أن البيع نفس النقل الذي هو مدلول الصيغة، فجعله مدلول الصيغة إشارة إلى تعيين ذلك الفرد من النقل، لا أنه مأخوذ في مفهومه حتى يكون مدلول بعت: نقلت بالصيغة.
لأنّه إنْ أريد بالصّيغة خصوص بعت، لزم الدّور، لأن المقصود معرفة مادّة بعت، وإنْ أريد بها ما يشمل ملّكت، وجب الاقتصار على مجرّد التمليك والنقل.
ويجاب عن الأوّل: صحيح أنّ «النقل» أعمّ من «البيع» وليس مرادفاً له، إلاّ أنّ التعريف ينطبق على البيع وتزول الأعمّية بالقيود اللاّحقة، وكذلك كثير من التعريفات.
وعن الثاني: بأنّ المعاطاة عند المحقق الثاني بيع، ويدّعي الإجماع عليه، فهذا قرينةٌ على أنه بصدد تعريف البيع بالصّيغة. فتدبّر.
وعن الثالث: بأنّ المعرَّف هو المعاملة المعهودة عند الناس والمرتكزة في الأذهان، والمراد من الصّيغة المخصوصة لفظ بعت، فالموقوف غير الموقوف عليه، وهذا ما أفاده السيّد الجدّ وغيره من الأكابر.
واعترضه المحقق الإيرواني بقوله: لا يقال: إن المراد من الصّيغة المخصوصة لفظ بعت، والمعرَّف ـ بالفتح ـ معنى البيع، فلم يؤخذ المعرَّف في المعرِّف حتى يلزم الدّور. لأنا نقول: إنّ لفظ بعت بما هو هذا اللّفظ لا أثر له في حصول النقل، وإنما النقل يحصل بهذا اللّفظ قاصداً به إنشاء معناه، فيحتاج إلى العلم بمعناه، فينتهي إلى أخذ البيع في تعريف البيع(15).
وفيه ـ كما تقدَّم في بعض كلمات السيّد الجدّ ـ أنّ المقصود تعريف ما هو المتعارف والمتداول بين الناس بعنوان البيع في مقابل سائر المعاملات، وإفادة أنّ هذه المعاملة تتحقّق بلفظ بعت، وليس كذلك سائر المعاملات، وحينئذ لا يلزم الدّور.
(1) قد عرّف السيّد الجدّ البيع في أوّل الكتاب. فهو يتكلّم على تعاريف الفقهاء.
(2) المبسوط 2 / 76، السرائر 2 / 240، تذكرة الفقهاء 10 / 5.
(3) المختصر النافع: 118، الدروس الشرعية 3 / 191، التنقيح الرائع 2 / 23.
(4) جامع المقاصد 4 / 55.
(5) حاشية المكاسب 1 / 291.
(6) بلغة الطالب: 32.
(7) حاشية المكاسب 1 / 57.
(8) مصباح الفقاهة 2 / 53.
(9) حاشية المكاسب: 73.
(10) مصباح الفقاهة 2 / 54.
(11) مصباح الفقاهة 2 / 53.
(12) أنظر: بدائع الأفكار: 262 وحاشية الإشكوري 1 / 34.
(13) حاشية المكاسب 1 / 293.
(14) حاشية المكاسب 1 / 61، وراجع: نهاية الدراية في حاشية الكفاية 1 / 274.
(15) حاشية المكاسب: 73.