الجواب:
لأنّ الماليّة صفة ثبوتيّة، لكنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له في أفق الثبوت، فإن كان الثبوت خارجيّاً، لزم ثبوت المثبت له في الخارج، وإنْ كان ذهنيّاً لزم ثبوته في الذهن، وإنْ كان اعتباريّاً، لزم ثبوته في عالم الاعتبار، والماليّة أمر اعتباري عقلائي يثبت للشيء بلحاظ أنه تميل إليه النفوس ويبذل بأزائه ـ لأجل أثره وفائدته ـ شيء. وعمل الحرّ كذلك، فالماليّة الاعتباريّة ثابتة له، فهو وإنْ لم يكن له ثبوت في الخارج لكنه ثابت في عالم الاعتبار، وله الماليّة الاعتباريّة باللّحاظ المذكور.
وأمّا عدم الضّمان والاستطاعة والحجر والغنى… فلأن الموضوع في هذه الموارد هو المال المضاف إلى المالك بإضافة الملكيّة، وعمل الحرّ مال، وليس له تلك الإضافة الاعتباريّة.
وأمّا أن ظاهر عبارة المصباح «مبادلة مال بمال في الملكية» كون الملكيّة حاصلة للمال قبل المعاوضة، فلا دليل عليه، بل العبارة مطلقة، ودعوى انصرافها إلى المال المضاف بإضافة الملكيّة بلا وجه.
فعمل الحرّ مال، فيبادل البائع عن متاعه بعمل الحرّ وإنْ كان غير مملوك له قبل البيع بالملكيّة الاعتبارية، نظير أنْ يجعل الكلّي ثمناً في البيع نسيئةً حيث البائع يبيع متاعه بشيء كلّي في ذمّة المشتري، سواء كان الثمن في بيع النسيئة نقداً من النقود كالدرهم والدينار، أو عيناً من الأعيان كالطعام، فالشيء الكلّي المجعول ثمناً، ليس بموجود عند المشتري وليس ملكاً له ولا لغيره قبل المعاملة، إلاّ أنه بجعله عوضاً وثمناً يصير مملوكاً للبائع، فلا يلزم أن يكون المبيع والثمن ملكاً لهما قبل البيع، ولذا يصح السّلم والنسيئة.
وعلى الجملة، فإنّ المحتاج إليه تأثير البيع في ملكيّة المالين للطرفين، وهذا التأثير أعم من أن يكون المالان قبل البيع ملكاً لهما أوْلا.
فمبادلة مال بمال صادقة في جعل عمل الحرّ عوضاً في البيع[1].
[1] لقد صحّح طاب ثراه وقوع عمل الحرّ عوضاً في البيع، وفاقاً للمشهور بل ادّعي عليه الإجماع، لأنه مالٌ عرفي مطلقاً، إذ لا فرق بينه وبين عمل العبد، مع أنه لا إشكال في كونه مالاً. وفي مقابله وجهان أو قولان، أحدهما: أنه لا يصدق عليه عنوان المال، والآخر: التفصيل بين الحرّ الكسوب وغير الكسوب، فيقال: إن الأوّل مال عرفي دون الثاني. قال السيّد الطباطبائي رحمه اللّه: «وهذا غير بعيد عن الصّواب، للصّدق العرفي في الأوّل دون الثاني»(1).
ومن الصّغريات المهمّة لهذا البحث: مسألة ما لو حبس الحرّ ظلماً، والمفروض أنّ عمله مالٌ، فهل يضمن الحابس ما كان بإمكانه أن يعمل مدّة حبسه؟
إنه يعتبر في ضمان عمل الحرّ أن يكون ـ بالإضافة إلى ماليّته العرفية ـ مملوكاً له، ولذا لا يمكن الإستدلال للضمان بقاعدة الإتلاف، لأنّ موضوعها «مال الغير» وهو غير صادق على عمل الحرّ، ولا بقاعدة اليد، لعدم صدق «الأخذ» على الحبس.
قال بعض مشايخنا: نعم، في أخبار زكاة الفطرة ما ربما يدلّ على وجوب الزكاة عليه، لأنّ المكلّف إنْ كان غنيّاً فعليه دفع الزكاة، وإنْ كان فقيراً فله أخذها، وفي الأخبار: «ليس على من لا يجد ما يتصدّق به حرج»(2)، ولا يقال عرفاً لصاحب الصنعة الكسوب: «لا يجد» حتى يقال بعدم وجوب الزكاة عليه بل يجوز له الأخذ منها.
إلاّ أنه ينتقض بمثل قوله صلّى اللّه عليه وآله: «ليّ الواجد يحلّ عقوبته وعرضه»(3)، فهل يصدق «الواجد» على مجرّد كون الرجل صاحب صنعة، فتجوز عقوبته ويتعرّض عرضه للخطر؟ وأمّا أخبار زكاة الفطرة، فالموضوع فيها مختلف، وقد جاء في خبرين منها عنوان «من لا يجد»(4).
ولذا استدرك قائلاً: بأنّ «الوجدان» كما في لسان العرب وغيره(5) يأتي بمعنى «القدرة» و«التمكن» وهو كذلك في آية الوضوء، كما في الأخبار(6). وحينئذ، لا يوصف الحرّ المحترف الكسوب بواجد المال.
كما لا يمكن الاستدلال للضّمان بقاعدة لا ضرر، لأن صدق عنوان الضّرر والضرار في هذا المقام أوّل الكلام… .
وتبقى السّيرة العقلائيّة، وقد استدلّ بها المحقق الخوئي للضّمان حيث قال: «نعم، إذا كان الحرّ كسوباً وله عمل خاص يشتغل به كلّ يوم، كالبناية والنجارة والخياطة وغيرها، فإنّ منعه عن ذلك موجب للضّمان، للسّيرة القطعيّة العقلائيّة»(7).
لكن القدر المتيقن من السّيرة أن يكون الكسوب المذكور بحيث لو لم يقع في ضيق وعسر، وذلك في خصوص ما لو حبس، وفاقاً لبعض مشايخنا دام بقاه.
(1) حاشية المكاسب 1 / 278.
(2) وسائل الشيعة 9 / 321، الباب 2 من أبواب زكاة الفطرة، الرّقم: 2.
(3) عوالي اللآلي 4 / 72، الرقم 44 و 45.
(4) وسائل الشيعة 9 / 321، الباب 2 من أبواب زكاة الفطرة.
(5) تاج العروس 2 / 524.
(6) ولذا عنون في وسائل الشيعة الباب الخامس من أبواب التيمّم: باب جواز التيمّم مع عدم التمكّن من استعمال الماء لمرض… ج 3 / 346.
(7) مصباح الفقاهة 2 / 36.