التّنبيهُ السادس
في ملزمات المعاطاة على كلٍّ من القول بالملك والقول بالإباحة
قال الشيخ:
إعلم أنّ الأصل على القول بالملك: اللزوم، لما عرفت من الوجوه الثمانية المتقدّمة، وأمّا على القول بالإباحة، فالأصل عدم اللّزوم، لقاعدة تسلّط الناس على أموالهم… .
أقول:
أمّا بناءً على إفادة المعاطاة الملك، فإنّ الوجوه الثمانية تفيد اللّزوم، وهي:
قاعدة السّلطنة، فالآخذ مالك وله السّلطنة، وليس للمعطي الرجوع والتصرّف على خلاف سلطنة الآخذ.
وقوله: لا يحلُّ… ووجه الاستدلال كسابقه.
وآية التّجارة، فإنها تدلُّ على اللّزوم بكلتا الجملتين.
وآية الوفاء بالعقود، ومقتضاها أنْ يكون المعطي واقفاً على العقد الذي أوجده وأنْ يفي به، فلو رجع عن عقده فقد خالف الأمر بالوفاء.
والبيّعان بالخيار… فإنه مع الافتراق لا رجوع له. وفي بعض الألفاظ: وجب البيع.
والمؤمنون عند شروطهم، دلّ على أنّ المؤمنين واقفون عند شروطهم، ملتزمون بها، لا يخالفونها، والرجوع ينافي هذا المعنى.
والاستصحاب، فإنّ مقتضاه بقاء ملكيّة الآخذ.
وأمّا بناءً على إفادتها الإباحة، فمقتضى القاعدة هو الجواز، وأنّ للمعطي الرجوع فيما أعطاه، لعموم: «الناس مسلّطون على أموالهم» واستصحاب السّلطنة الموجودة من قبل المعاطاة، فإنه لو شكّ بأنّ هذه الإباحة تزيل السّلطنة أوْلا؟ يستصحب بقاؤها، وهذا الاستصحاب حاكم على استصحاب الإباحة الحاصلة للآخذ قبل رجوع المعطي.
إلى هنا كلام الشيخ.
فأقول:
إنّ ما ذكره بناءً على القول بالملك تام، لكنّ كلامه بناءً على القول بالإباحة مجمل جدّاً، بل الإنصاف عدم خلوّه من الإشكال، لأنّ الإباحة في المعاطاة على أنحاء:
1 ـ الإباحة المالكيّة المقصودة للمتعاطيين، وهو مختار صاحب الجواهر.
2 ـ المعاطاة المقصود بها الملك، لم يعتبر الشارع فيها الملكيّة واعتبر الإباحة المالكيّة الضّمنية الحاصلة ضمن التمليك المقصود.
3 ـ المعاطاة بعنوان التمليك، وكان الرّضا تمليكاً ولم يكن هناك رضا بالإباحة في الضّمن، والشّارع لم يمض هذا الرّضا، وإذْ سقط التمليك لعدم اعتبار الشارع، سقط الرضا تبعاً له، إلاّ أنّ الشّارع قد اعتبر الإباحة، فهي إباحة شرعيّة تعبّدية محضة، فكأن الشارع يقول: من أعطى ماله إلى غيره بقصد التمليك، فهذا الإعطاء عندي سبب لترخيصه في التصرّف، وإنْ كان تصرّفه على خلاف رضا المالك، نظير المعاملة الفاسدة، حيث أنّ الشارع لم يعتبر الملكيّة في العقد الفاسد، ولا يوجد هناك رضا من المالك بالتصرّف، لكنْ يوجد في المعاطاة هكذا تعبّد من الشارع.
فإن كانت الإباحة من قبيل الأوّل، فللمعطي الرجوع، لقاعدة السّلطنة، لأنّ الشيء باق على ملكه ولم يقصد هو التمليك ولا جاء من قبل الشارع ملكيّة تعبّدية، وحينئذ، لا معنى لأنْ يجمع الشيخ بين القاعدة والاستصحاب، لأنّ مقتضى القاعدة كون المال مالاً له، ولا شك في بقاء الملكيّة، مضافاً إلى أنه مع وجود الدليل لا مجال للأصل، كما أنّ استصحاب الإباحة أيضاً لا معنى له، حتى يكون ذاك حاكماً عليه، لأنه قد أباح ثم رجع.
وإنْ كانت الإباحة ضمنيّةً حاصلةً من المالك وقد اعتبرها الشارع، فإنّه ـ وإنْ زعم أن المال خارج عن ملكيّته ـ لا يزال المال في ملكه بحكم الشارع، فالإضافة الملكيّة موجودة وعلى أساسها تجري قاعدة السلطنة، وله الرجوع، فلا تصل النوبة إلى استصحاب السّلطنة السّابقة، ولا تجري أصالة الإباحة حتى يكون محكوماً.
وإنْ كانت الإباحة شرعيّة تعبّدية ـ بأنْ يقول: إنه وإنْ لم يتملّك المتعاطيان المالين، ولا رضا منهما بالتصرّف أصلاً، فهما متعبَّدان بإباحة التصرّف فيما أخذاه ـ فإنه يستصحب بقاؤهما بعد المعاطاة ورجوع المالك، لأنّه يشكّ في أنه بالرجوع قد ارتفعت بالإباحة الشرعيّة أوْلا؟ فالأصل بقاؤها، وهذا الأصل لا يمكن أنْ يكون محكوماً. نعم، قاعدة السّلطنة محفوظة، فله التصرّف في ماله، كأنْ يبيعه مثلاً فيرتفع الموضوع، لكنْ مادام هو موجوداً فالشارع تعبّد بجواز التصرّف للآخذ، وكلّما يقول: لست براض بتصرّفاتك، لم يكن مؤثّراً، لأنّها إباحة شرعيّة لا مالكيّة، والمالكيّة هي التي ترتفع بالرجوع.
فإذن، ليس هناك منافاة بين قاعدة السّلطنة واستصحاب بقاء الإباحة، فضلاً عن أن يوجد التنافي بين استصحابهما فيقال بتقدّم ذاك على هذا بالحكومة.
وعلى فرض جريان استصحاب السّلطنة، فإنه يفيد لأنْ يتصرّف المالك في ملكه التصرّفات الناقلة أو المتلفة، وأمّا مادام المال موجوداً، فالحكم بالإباحة الشرعيّة موجود، ومع الشكّ في بقائه يستصحب.
Menu