7 ـ هل يشترط إحلاف الذمي؟
قال العلامة في (التحرير): «الأقرب إحلاف الشاهدين على ما تضمّنته الآية(1)، ولم أجد من قال بذلك»(2).
وفي (المسالك): «ظاهر الآية إحلاف الذميّ بعد العصر بالصورة المذكورة في الآية، وهو إنهما ما خانا ولا كتما شهادة الله ولا اشتريا به ثمناً قليلاً ولو كان ذا قربى، واعتبر العلاّمة أيضاً في التحرير، ولا ريب في أولويته، إذ لا معارض له، وعمومات النصوص غير منافية له»(3).
واقتصر المقداد في (التنقيح) على ذكر قول العلاّمة حيث قال: «وهل يشترط الإحلاف؟ قال العلاّمة: نعم، عملاً بظاهر الآية، ولم يذكر غيره ذلك»(4).
وعلى هذا، فوجه نسبة القول بعدم الاشتراط إلى المشهور في (الروضة) هو عدم تعرّض القدماء لهذه المسألة، إذ لو اشترطوا لذكروا.
وكيف كان، فالأقرب ما ذهب إليه العلاّمة عملاً بظاهر الآية المباركة، وقد روي في شأن نزولها الخبر الآتي: محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن رجاله ـ رفعه ـ قال: خرج تميم الداري مسلماً وابن بندي وابن أبي مارية نصرانيين، وكان مع تميم الداري خرج له فيه متاع، وآنية منقوشة بالذهب، وقلادة، أخرجها إلى بعض أسواق العرب للبيع، فاعتلّ تميم الداري علةً شديدة، فلمّا حضره الموت دفع ما كان معه إلى ابن بندي وابن أبي مارية، وأمرهما أن يوصلاه إلى ورثته.
فقدما إلى المدينة وقد أخذا من المتاع الآنية والقلادة، فقالوا لهما: هل مرض صاحبنا مرضاً طويلاً أنفق فيه نفقة كثيرة؟ قالا: لا، ما مرض إلا أياماً قلائل. قالوا : فهل سرق منه شيء في سفره هذا؟ قالا: لا. قالوا: فهل اتّجر تجارة خسر فيها؟ قالا: لا. قالوا: فقد افتقدنا أفضل شيء كان معه، آنية منقوشة بالذهب مكلّلة بالجوهر، وقلادة. فقالا: ما دفع إلينا فأدّيناه إليكم. فقدّموهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأوجب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عليهما اليمين فحلفا، فخلاّ عنهما.
ثم ظهرت تلك الآنية والقلادة عليهما، فجاء أولياء تميم إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: قد ظهر على ابن بندي وابن أبي مارية ما ادّعيناه عليهما. فانتظر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الحكم من الله في ذلك، فأنزل الله تبارك وتعالى: (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْل مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ)(5) فأطلق الله شهادة أهل الكتاب على الوصية فقط، إذا كان في سفر ولم يجد المسلمين، (فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الآثِمِينَ)(6) فهذه الشهادة الاولى التي جعلها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً)(7) أي: إنهما حلفا على كذب (فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا)(8) يعني من أولياء المدعي (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ)(9) يحلفان بالله أنهما أحق بهذه الدعوى منهما، فإنهما قد كذبا فيما حلفا بالله (لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ)(10).
فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أولياء تميم الداري أن يحلفوا بالله على ماأمرهم، فحلفوا، فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم القلادة والآنية من ابن بندي وابن أبي مارية، وردّهما على أولياء تميم الداري. (ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ)(11)(12).
هذا، وليس في القصة ذكر للوصيّة، فإن مورد نزول الآية بالنظر إلى هذه الرواية هو النزاع في مال الميت، فكيف نقول باختصاص القبول بالوصية؟ ولماذا لا نقبل الشهادة في نظير مورد نزول الآية، كما لو سافر مسلم مع ذميين ثم مات المسلم، فاتّهم وليّه الذمّيين بأنهما قتلاه، فشهد ذميان آخران على أنه مات حتف أنفه؟ هذا فيه تأمّل.
ثم إنه لم يتعرّض أحد فيها نعلم للبحث في أنه هل يشترط في الإحلاف الإرتياب أو لا؟ وظاهر الآية هو الإشتراط. إذن، تكون شهادتهما مقبولة مالم يحصل ارتياب، فإن حصل فمع اليمين (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا…).
(1) سورة المائدة 5 : 106.
(2) تحرير الأحكام 5 : 246.
(3) مسالك الأفهام 14 : 163.
(4) التنقيح الرائع 4 : 287.
(4) سورة المائدة 5 : 106.
(5) سورة المائدة 5 : 106.
(6) سورة المائدة 5 : 107.
(7) سورة المائدة 5 : 107.
(8) سورة المائدة 5 : 107.
(9) سورة المائدة 5 : 107.
(10) سورة المائدة 5 : 108.
(11) وسائل الشيعة 19 : 314/1 . كتاب الوصايا ، الباب 21.