الوصف الرابع: العدالة
قال المحقق: «الرابع: العدالة، إذ لا طمأنينة مع التظاهر بالفسق»(1).
أقول: التعليل بعدم الطمأنينة بشهادة الفاسق ربما يفيد قبول شهادة الفاسق مع إفادة الطمأنينة، وأيضاً: ربما يفيد قوله: مع التظاهر بالفسق قبول الشهادة من الفاسق غير المتظاهر بالفسق.
لكن الإلتزام بالأمرين مشكل.
فالصحيح: الإستدلال بالكتاب والسنة والإجماع في كلمات غير واحد من الأصحاب، على اعتبار وصف العدالة(2) في الشاهد، وعدم قبول شهادة الفاسق.
أما الكتاب، فقد استدلّ بآيات منه، كقوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْل مِّنكُمْ)(3) وقوله تعالى في الوصية (اثْنَانِ ذَوَا عَدْل مِّنكُمْ)(4) فإن اعتبار العدالة في الشاهد على الوصية يقتضي اعتبارها في غيرها بالأولوية، وقوله تعالى: (مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء)(5).
وأما السنّة، فبالأخبار الكثيرة الواردة في الأبواب المختلفة، كالوارد في شهادة المملوك: «لا بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلاً»(6) وفي شهادة المكاري والجمّال والملاح: «ما بأس بهم، تقبل شهادتهم إذا كانوا صلحاء»(7) وفي شهادة الضيف: «لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفاً صائناً»(8) إلى غير ذلك.
ومن أشهر الأخبار في مسألة العدالة وتعريفها واعتبارها في الشهادات: صحيحة عبد الله بن أبي يعفور قال: «قلت لأبي عبد الله عليه السلام: بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم وعليهم؟
قال: أن تعرفوه بالستر والعفاف وكفّ البطن والفرج واليد واللسان، ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار، من شرب الخمر والزنا والربا وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وغير ذلك.
والدلالة على ذلك كلّه: أن يكون ساتراً لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه وتفتيش ماوراء ذلك، ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته في الناس، ويكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهن، وحفظ مواقيتهن بحضور جماعة من المسلمين، وأن لا يتخلّف عن جماعتهم في مصلاّهم إلا من علّة، فإذا كان كذلك لازماً لمصلاّه عند حضور الصلوات الخمس. فإذا سئل عنه في قبيلته ومحلّته قالوا: ما رأينا منه إلا خيراً، مواظباً على الصلوات، متعاهداً لأوقاتها في مصلاّه. فإن ذلك يجيز شهادته وعدالته بين المسلمين.
وذلك أن الصلاة ستر وكفّارة للذنوب، وليس يمكن الشهادة على الرجل بأنه يصلي إذا كان لا يحضر مصلاّه، ويتعاهد جماعة المسلمين، وإنما جعل الجماعة والإجتماع إلى الصلاة لكي يعرف من يصلّي ممن لا يصلّي، ومن يحفظ مواقيت الصلاة ممن يضيّع، ولولا ذلك لم يمكن أحد أن يشهد على آخر بصلاح، لأن من لا يصلّي لا صلاح له بين المسلمين، فإن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم همّ بأن يحرق قوماً في منازلهم لتركهم الحضور لجماعة المسلمين، وقد كان فيهم من يصلّي في بيته فلم يقبل منه ذلك، وكيف يقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين ممن جرى الحكم من الله عزوجل ومن رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه الحرق في جوف بيته بالنار، وقد كان يقول: لا صلاة لمن لا يصلّي في المسجد مع المسلمين إلا من علّة»(9).
إنما الكلام في ما يزيل العدالة وما لا يزيلها:
قال المحقق قدّس سرّه: «ولا ريب في زوالها بمواقعة الكبائر، كالقتل والزنا واللواط وغصب الأموال المعصومة»(10).
(1) شرائع الإسلام 4 : 126.
(2) ذكر السيد الاستاذ في تعليقته على العروة وعلى الوسيلة: إن العدالة نفس الاجتناب عن الكبائر ، الناشئ عن الحالة النفسانية المعبر عنها بالملكة وإن حسن الظاهر كاشف عن وجودها.
وقد استظهر دام ظله هذا الذي اختاره من صحيحة عبد الله بن أبي يعفور المذكورة في المتن، حيث تكلّم بعض الشيء في شرح العدالة، وتعرض للأقوال المذكورة فيها، ولعلّنا ننشر ذلك في رسالة مستقلة بإذن الله.
(3) سورة الطلاق 65 : 2.
(4) سورة المائدة 5 : 106.
(5) سورة البقرة 2 : 282.
(6) وسائل الشيعة 27 : 345/1 . كتاب الشهادات ، الباب 23.
(7) وسائل الشيعة 27 : 381/1 . كتاب الشهادات ، الباب 34.
(8) وسائل الشيعة 27 : 395/10 . كتاب الشهادات ، الباب 41.
(9) وسائل الشيعة 27 : 391/1 . كتاب الشهادات ، الباب 41.
(10) شرائع الإسلام 4 : 126 127.