الصورة الثانية: كون العين بيد أحدهما فهل يقدّم الداخل أو الخارج؟
والصورة الثانية: أن تكون العين في يد أحد المتنازعين، قال المحقق قدّس سرّه: «يقضى بها للخارج دون المتشبث إن شهدتا لهما بالملك المطلق»(1).
أقول: نسبه في (الجواهر) إلى المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة قال: بل عن الخلاف والغنية والسرائر وظاهر المبسوط الإجماع عليه، بل عن الخلاف والأخير نسبته إلى أخبار الفرقة(2).
قلت: والصريح منها في الدلالة: المرسلة عن أمير المؤمنين عليه السلام: «في البينتين تختلفان في الشيء الواحد يدّعيه الرجلان، أنه يقرع بينهما فيه إذا عدلت بيّنة كلّ واحد منهما وليس في أيديهما، فأما إن كان في أيديهما فهو فيما بينهما نصفان، وإن كان في يد أحدهما فالبيّنة فيه على المدّعي واليمين على المدّعى عليه»(3).
وضعفها منجبر بما عرفت.
وقد استدل له: بالتعليل الوارد في خبر منصور قال: «قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل في يده شاة، فجاء رجل فادّعاها، فأقام البينة العدول أنها ولدت عنده ولم يهب ولم يبع، وجاء الذي في يده بالبينة مثلهم عدول أنها ولدت عنده لم يبع ولم يهب. فقال أبو عبد الله عليه السلام: حقها للمدعي ولا أقبل من الذي في يده بينة، لأن الله عزّ وجل إنما أمر أن تطلب البينة من المدّعي، فإن كانت له بينة وإلا فيمين الذي هو في يده. هكذا أمر الله عزّ وجل»(4)، دلّ على أن البيّنة المسموعة هي بيّنة المدّعي، وأن عليها يترتب الأثر حتى في صورة وجود البينة للمدّعى عليه.
أقول: وهذا الخبر يوضّح المراد بالخبر المستفيض، وهو قولهم عليهم السلام «البينة على المدّعي واليمين على من ادّعى عليه» فيكون ظاهراً في عدم قبول بينة المنكر، وأن الميزان في مقام المرافعة سماع بيّنة المدّعي، فإن كانت له بينة وإلا فيمين المدّعى عليه، فهكذا أمر الله عزّ وجل.
واختار السيد في (العروة) القول بسماع البينة من المنكر في صورة التعارض بل مطلقاً ولو مع عدمه، قال: إن الاقوى سماع البينة من المنكر في صورة التعارض بل مطلقاً ولو مع عدمه، فيجوز للمنكر مع عدم البينة للمدّعي أن يقيم البينة فراراً من اليمين، وإن ادعى صاحب الرياض الإجماع على عدم قبولها منه.
قال: ويدل على ما ذكرنا بعد منع الإجماع ـ مضافاً إلى عموم ما دلّ على حجّية البيّنة، وإلى عموم مثل قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم إنما أقضى بينكم بالبيّنات والأيمان ـ خصوص أخبار المقام…».
قلت: إن تمسّكه بهذه العمومات لسماع البيّنة من المنكر، في غاية الإشكال، وكذلك جوابه عن الإستدلال بالخبر المشهور «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» للقول الأول: بأن المراد منه بيان الوظيفة الأوّلية للمدّعي والمنكر، وإلا فلا مانع من سماع البينة للمنكر أيضاً، قال: «وأيضاً: يمكن أن يقال: القدر المعلوم من الخبر أنه لا يلزم المنكر بالبينة وإنما يلزم باليمين، لا أنه لا تقبل منه البينة»(5).
فإنه ـ وإن سبقه إلى ذلك صاحب (الجواهر) حيث تنظر في دلالته على القول الأول، مع قطع النظر عن خبر منصور، قائلاً: «ضرورة عدم دلالته على أزيد من استحقاق المدعي على المنكر اليمين دون البينة بخلاف المنكر فإن له على المدّعي البينة…»(6) ـ خلاف ظاهر الخبر، لا سيما مع النظر إلى خبر منصور، ولأن التفصيل قاطع للشركة، فلا تكون البينة حجة من كليهما ولا اليمين، ولكن الأولى هو النظر في نصوص هذه الأخبار، فلا بأس بنقل بعضها:
1 ـ عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «في كتاب علي عليه السلام: أن نبياً من الأنبياء شكاً إلى ربّه فقال: يا رب كيف أقضي فيما لم أر ولم أشهد؟
قال: فأوحى الله إليه: أُحكم بينهم بكتابي وأضفهم إلى اسمي فحلّفهم ]تحلفهم[ به وقال: هذا لمن لم تقم له بينة»(7).
2 ـ عن أبان بن عثمان عمّن أخبره عن أبى عبد الله عليه السلام قال: «في كتاب علي عليه السلام أن نبياً من الأنبياء…»(8).
3 ـ عن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام: «أن نبياً من الأنبياء شكا إلى ربّه…»(9).
4 ـ عن ضمرة بن أبي ضمرة عن أبيه عن جده قال قال أمير المؤمنين عليه السلام أحكام المسلمين على ثلاثة: شهادة عادلة، أو يمين قاطعة، أو سنّة ماضية من أئمة الهدى(10).
5 ـ عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنما أقضى بينكم بالبيّنات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجته من بعض…»(11).
6 ـ عن جميل وهشام عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: البينة على من ادّعى واليمين على من ادّعي عليه»(12).
7 ـ عن بريد بن معاوية عن أبي عبد الله عليه السلام: قال «سألته عن القسامة. فقال: الحقوق كلّها البينة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه إلا في الدم خاصة. الحديث»(13).
8 ـ عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «إن الله حكم في دمائكم بغير ما حكم به في أموالكم، حكم في أموالكم أن البينة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه، وحكم في دمائكم أن البينة على من ادّعي عليه واليمين على من ادّعى، لئلا يطلّ دم امرئ مسلم»(14).
أقول: والإنصاف ظهور الأخبار الأربعة الثانية في أن ميزان القضاء في مقام المرافعة كون البينة على المدّعي، وكون اليمين على من أنكر، وأنه لم تجعل البينة على المدّعى عليه في الشرع في مورد إلا لحكمة مخصوصة بذلك المورد(15).
واستدلّ صاحب (الجواهر) لسماع بيّنة المدّعى عليه بعموم ما دلَّ على حجّية شهادة العدلين كتاباً وسنّة.
قلت: وأيضاً: يمكن الإستدلال له بالسيرة، فإنها قائمة على قبول خبر العدل الواحد فضلاً عن العدلين، لكن ردع الشارع عن قبول خبر العدل الواحد في الموضوعات.
لكن المرسلة المنجبرة وخبر منصور يخصّصان العام، ويصلحان للرّدع عن السيرة في هذا المقام…
واستدل السيد في (العروة) بأخبار خاصة وبخبر فدك حيث قال: «وإشعار خبر فدك، فإن أمير المؤمنين عليه السلام أنكر على أبي بكر في طلبه البيّنة منه في الدعوى عليه، مع أنه لا يطلب من غيره إذا ادّعى هو على ذلك الغير، فحاصل إنكاره عليه السلام أنه لم فرق بينه عليه السلام وبين الناس في طلب البينة، ولو كان لا يقبل من المدّعى عليه البينة لكان أولى بالإنكار عليه في مقام المجادلة»(16).
قلت: أما بعض الأخبار الخاصة التي أشار إليها فيكفي في وهنها إعراض المشهور عنها، وأما دعواه إشعار خبر فدك بما ذهب إليه، ففيها: إن التمسك به لعدم حجية بينة المدّعى عليه أولى، لأن دلالته على ذلك أوضح مما قاله، فقد ورد في ذلك الخبر:
«إن أمير المؤمنين عليه السلام قال لأبي بكر: أتحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ قال: لا، قال: فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ادّعيت أنا فيه من تسأل البينة؟ قال: إياك كنت أسأل البينة على ما تدّعيه على المسلمين. قال: إذا كان في يدي شيء فادّعى به المسلمون تسألني البيّنة على ما في يدي وقد ملكت في حياة رسول الله غوبعده، ولم تسأل المؤمنين البينة على ما ادّعوا علىّ كما سألتني البينة على ما ادعيت عليهم ط وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: البينة على من ادّعى واليمين على من أنكر»(17).
وهو ظاهر بل صريح في أنه لا يطلب البينة من ذي اليد ولا يحكم على طبقها إذا أقامها.
على أنه لم يعهد أن يسأل الحاكم ـ بعد إقامة المدّعي بيّنته ـ المدّعى عليه هل عنده بينة على الإنكار أولا… وأيضاً، فقد تقدم في المباحث السابقة الخبر(18)الدالّ على أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يرسل من يسأل عن حال الشاهدين إذا لم يعرفهما ويوقف الحكم في القضية حتى يرجع رسوله، فإذا رجع وظهر عدالة الشاهدين حكم. ولم يتضمن هذا الخبر سؤاله صلّى الله عليه وآله وسلّم من المدّعى عليه في تلك الاثناء أو بعد رجوع الرسول عن وجود البينة عنده على جرح الشاهدين أو إنكار دعوى المدعي…
ومن هنا كان القضاء للمدعي ـ بعد إقامة البينة الجامعة للشرائط ـ أمراً مسلّماً بين المسلمين.
وكيف كان، فقد قال المحقق في هذا القسم: «وفيه قول آخر ذكره في الخلاف بعيد».
وهذا القول هو: تقديم بينة الداخل على بيّنة الخارج، قال: المحقق: وهو بعيد، وفي (الجواهر): بل لم نتحققه قولاً له(19).
وفي المسألة أقوال أخرى: فقد فصّل بعضهم فقال بعدم حجية بينة المنكر مع القول بصلاحيتها للمعارضة مع بيّنة المدعي، وبعبارة أخرى: المستفاد من أدلّة القضاء هو عدم القضاء ببيّنة المدّعى عليه، ولكن لا تدل على عدم صلاحيتها للمعارضة مع بينة المدعي وإسقاطها عن الحجية، فإذا سقطتا يقضى بالعين للحالف.
أقول: وحاصل هذا القول: عدم القضاء ببيّنة المدّعي مع وجود بينة المدّعى عليه أو احتمال وجودها.
لكن يردّه: أنه إذا كان كذلك، فلماذا كان ديدن المسلمين على خلاف ذلك، وهو القضاء للمدعي بمجرد إقامة البينة، من غير سؤال من المدّعى عليه عن وجود البينة عنده وعدم وجودها، كما هو شأن الفقيه في مقام الإفتاء حيث يفتي على طبق الخبر بعد الفحص واليأس عمّا يعارضه.
وأما القول بتقديم البينة المشتملة على ذكر السبب منهما، فلا دليل عليه في الأخبار، كالقول بالتقديم بالأعدلية، وأما تقديم الأكثر عدداً منهما، فقد يدل بعض الأخبار عليه.
لكن المختار هو القول الأول، وهو الأخذ ببينة الخارج، تبعاً للمشهور، والله العالم.
هذا كلّه لو شهدتا بالملك المطلق.
(1) شرائع الإسلام 4 : 111.
(2) جواهر الكلام 40 : 416.
(3) مستدرك الوسائل 17 : 372/1 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 10.
(4) وسائل الشيعة 27 : 255 الباب 12 من أبواب كيفية الحكم. وفيه « محمد بن حفص » ولم أجد توثيقاً له . انظر: تنقيح المقال 3 / 108.
(5) العروة الوثقى 3 : 152 ـ 154.
(6) جواهر الكلام 40 : 415.
(7) وسائل الشيعة 27 : 229/1 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 1.
(8) وسائل الشيعة 27 : 229/1 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 1.
(9) وسائل الشيعة 27 : 229/1 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 1.
(10) وسائل الشيعة 27 : 231/6 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 1.
(11) وسائل الشيعة 27 : 232/3 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 2.
(12) وسائل الشيعة 27 : 234/1 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 2.
(13) وسائل الشيعة 27 : 234/2 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 3.
(14) وسائل الشيعة 27 : 235/6 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 3.
(15) أقول : وخير دليل على القول الأول خبر عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال : « قلت للشيخ عليه السلام: خبّرني عن الرجل يدّعى قبل الرجل الحق فلم تكن له بينة بما له، قال: فيمين المدّعي عليه، فإن حلف فلا حقّ له، وإن ردّ اليمين على المدّعى فلم يحلف فلا حق له ] وإن لم يحلف فعليه [ وإن كان المطلوب بالحق قد مات فأُقيمت عليه البينة فعلى المدّعي اليمين بالله الذي لا إلَه إلا هو لقد مات فلان وأن حقه لعليه، فإن حلف وإلا فلا حق له، لأنا لا ندري لعلّه قد أوفاه ببينة لا نعلم موضعها أو غير بينة قبل الموت، فمن ثم صارت عليه اليمين مع البينة، فإن ادّعى بلا بينة فلا حق له، لأن المدّعى عليه ليس بحي، ولو كان حياً للزم اليمين أو الحق أو يرد اليمين عليه، فمن ثم لم يثبت الحق » وسائل الشيعة 27 : 236/1 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 4 . وهو خبر قد اعتمد عليه صاحب الجواهر نفسه في المباحث السابقة..
(16) العروة الوثقى 3 : 153.
(17) وسائل الشيعة 27 : 293/3 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 25.
(18) وسائل الشيعة 27 : 239/1 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 6.
(19) جواهر الكلام 40 : 417.