الصورة الاولى: كون العين بيد المتداعيين:
«يقضى بينهما نصفين، لأن يد كلّ واحد على النصف، وقد أقام الآخر بينة فيقضى له بما في يد غريمه»(1).
فالحكم في هذه الصورة هو جعل العين بينهما نصفين ـ نظير صورة النزاع حول العين مع عدم البينة واليد لأحدهما عليها ـ بلا إشكال كما في (المسالك) وفي (الجواهر) بلا خلاف أجده بين من تأخّر عن القديمين الحسن وأبي علي(2).
اذن، لا اختلاف في الحكم بالتنصيف، ولكن اختلف في وجه هذا الحكم وسببه.
فقيل: لتساقط البينتين بسبب التساوي، فيبقى الحكم كما لو لم تكن بينة، وقيل: لأن مع كلّ منهم مرجحاً باليد على نصفهما، فقدمت بينته على ما في يده، وقيل ـ كما في المتن ـ: لأن يد كلّ واحد على النصف، وقد أقام الآخر بينة عليه، فيقضى له بما في يد غريمه، قال في (المسالك): بناءاً على تقديم بينة الخارج على الداخل، قال: وهذا هو الأشهر(3).
فالوجوه المذكورة في سبب الحكم في المسألة ثلاثة، وتظهر فائدة هذا الخلاف في اليمين على من قضي له، فعلى القول بالتساقط، يلزم لكلّ من المتنازعين يمين، وهذا هو مذهب المشهور في المسألة السابقة، خلافاً للمحقق، فإن حلفا فالتنصيف وإلاّ قضي بها للحالف دون الناكل، وإن نكلا جميعاً فالحكم هو التنصيف أيضاً، وعلى القولين الأخيرين ـ تقديم بينة الداخل، وتقديم بينة الخارج ـ لا يمين، لترجيح كلّ من البينتين باليد على القول الأول منهما فيعمل بالراجح، ولأن البينة ناهضة بإثبات الحق على القول الثاني منهما فلا يمين معها.
قال في (الجواهر): لكن في التحرير ـ بعد أن ذكر تعليل المصنف بما سمعت مصرحاً بكونه من تقديم بينة الخارج ـ قال: وقال يحلف كلّ واحد على النصف المحكوم له به أو يكون له من غير يمين؟ الأقوى عندي الأول مع احتمال الثاني(4).
وفي التنقيح ـ بعد أن ذكر التنصيف وجعل منشأه دائراً بين الأخيرين، وأنه على أوّلهما يقضى لكلّ منهما بما في يده، وعلى ثانيهما يقضى له بما في يد غريمه ـ قال: يكون لكلّ منهما اليمين على صاحبه، فإن حلفا أو نكلا فالحكم كما تقدم، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر، قضي بها للحالف.
وعن مهذب أبي العباس التصريح باليمين بناءاً على كون المنشأ دخولهما(5).
أقول: هذه عبارة (التنقيح) في هذه المسألة: «هذا هو القسم الثاني، وهو أن يكون في يدهما، فإن قلنا يقضى للداخل قضي لكلّ بما في يده، وإن قلنا يقضى للخارج قضي لكلّ بما في يد الآخر، فيكون بينهما نصفين على التقديرين، سواء أقاما بينة أو لم يقيما، ويكون لكلّ منهما اليمين على صاحبه، فإن حلفا أو نكلا فالحكم كما تقدّم، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر قضي بها للحالف»(6).
ذكرنا نص عبارته، ومن المحتمل أن يكون قوله «ويكون لكلّ منهما اليمين على صاحبه» مرتبطاً بقوله «أو لم يقيما» وقد يقويّه قوله قبل ذلك «قضي» في كلتا حالتي تقديم بينة الداخل وتقديم بيّنة الخارج. فيكون الحاصل أنه قد ذكر ثلاثة وجوه، فالأول: القضاء له بما في يده، بناءاً على تقديم بينة الداخل، والثاني: القضاء له بما في يد غريمه، بناءاً على تقديم بينة الخارج، والثالث: التحالف فيما إذا لم يقيما بينة.
ثم إن صاحب (الجواهر) وجّه كلام أبي العباس ابن فهد الحلّي ـ الذي نقله عن (المهذب البارع) بقوله: «ولعلّ ذلك منه خلافاً في أصل المسألة، وهو أن تقديم بيّنة الداخل بمعنى إسقاط بيّنة الخارج لا أنها حجة، فيرجع الحاصل كما لو لم تكن بينة على المنكر منهما اليمين، وهو الذي قوّاه في المختلف بعد أن حكى القولين في ذلك ، بل هو قوّي في نفسه، لاشتمال دليل تقديم بينة الداخل على اليمين كما ستعرف».
ووجّه كلام العلامة في التحرير والمقداد في التنقيح بقوله: «كما أن القول باليمين ـ مع القول بكون المنشأ تقديم بينة الخارج ـ لعلّه لخبر إسحاق بن عمار عن أبي عبدالله عليه السلام: إن رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين عليه السلام في دابّة في أيديهما، وأقام كلّ واحد منهما البينة أنها نتجت عنده، فأحلفهما علي عليه السلام، فحلف أحدهما وأبى الآخر أن يحلف، فقضى بها للحالف، فقيل له: فلو لم تكن في يد واحد منهما وأقاما البينة، فقال: أحلفهما فأيّهما حلف ونكل الآخر جعلتها للحالف، فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين، قيل: فإن كانت في يد أحدهما وأقاما جميعاً البينة. قال: أقضي بها للحالف الذي هو في يده(7).
بل ربما كان هو دليل التحالف على القول الأول، وإن لم نقل به في غيره.
إلا أنه خبر واحد وفي سنده ما فيه، والمشهور نقلاً وتحصيلاً على خلافه، فلا يصلح مقيداً لما دلّ ممّا تسمعه من النصوص وغيره على التنصيف بدونه»(8)…
أقول: قال المجلسي قدّس سرّه في (مرآة العقول) في رواية إسحاق المذكورة: «حسن أو موثق»(9)، على أنك قد عرفت عمل المشهور بها في المسألة السابقة، وذلك يجبر ضعفها إن كان.
وحينئذ، تصلح هذه الرواية لتقييد أدلّة البينة على المدّعي واليمين على من ادعي عليه، فلا مانع من القول بالتحالف في هذه الصورة، جمعاً بين الأدلّة.
وبعبارة أخرى: إن يد كلّ واحد هي في الواقع عند أهل العرف على نصف العين، فكلّ منهما يقيم البيّنة لأنه يدعي النصف الآخر الذي بيد غريمه، ويحلف على إنكار كون هذا النصف الذي بيده لغريمه، ودليل هذا التحالف هو رواية إسحاق المزبورة، وقد عرفت اعتبارها.
ولا يعارضها ما عن أبي جعفر عليه السلام قال: (بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عليّاً إلى اليمن، فقال له حين قدم: حدّثني بأعجب ما ورد عليك، فقال يا رسول الله، أتاني قوم قد تبايعوا جارية، فوطأها جميعهم في طهر واحد فولدت غلاماً فاختلفوا فيه كلّهم يدّعيه، فأسهمت بينهم، فجعلته للذي خرج سهمه وضمّنته نصيبهم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ليس من قوم تنازعوا ثم فوّضوا أمرهم إلى الله إلا خرج سهم المحق»(10).
لأنها في غير ما نحن فيه، لأن ذا اليد فيها واحد منهم وهو آخرهم، ولأن الولد حرّ فليس مالاً، وكلامنا في دعوى الأملاك.
ومثلها رواية تميم بن طرفة: «إن رجلين ادّعيا بعيراً، فأقام كلّ واحد منهما بينة، فجعله أمير المؤمنين عليه السلام بينهما»(11). إذ لا ظهور فيها لكون يدهما عليه ، بل جاءت في نسخة «عرّفا بعيراً» وحينئذ، تكون ظاهرة في غير المقام.
فالحاصل: إنه لا مانع من الحكم بمفاد رواية إسحاق بن عمار، وقد أفتى جماعة بذلك وإن لم يستند إليها بعضهم صريحاً، وصاحب (الجواهر) لم يناقش في دلالتها وإنما ضعّفها سنداً، وقد عرفت جوابه.
وقيل: إنه لما كان يدّعي كلّ واحد منهما كلّ العين، فإن يده لا تكون على النصف بل على الكل، فتتعارضان، وإذا تعارضتا تساقطتا، فيكون الحكم في المقام حكم صورة عدم تحقق يد من أحدهما على العين، وهو التنصيف كما تقدم.
لكن المشهور هو التنصيف بعد التحالف.
ثم إن صاحب (الجواهر) قدّس سرّه ـ بعد أن خدش في رواية إسحاق بما سمعت ـ استوجه أن يكون سبب حكم المحقق قدّس سرّه بالتنصيف كون هذا الحكم هو مقتضى العدل، وأنه ميزان من موازين القضاء من غير حاجة إلى تحالف، لا أنه مبني على تقديم بينة الخارج على بينة الداخل، لأن يد كلّ منهما على الكلّ لا النصف، ولأن المشهود به كون الجميع له لا نصفه.
ثم استدل على ذلك بخبر الدرهمين(12) وبقاعدة توارد السببين الممكن إعمالهما معاً على مسبب واحد نحو المتسابقين على حيازة مباح، وبإطلاق قوله عليه السلام: «لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين(13) وبإطلاق النبوي: «إن رجلين تنازعا دابة ليس لأحدهما بيّنة فجعلها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بينهما»(14)، وبالمرسل عن أمير المؤمنين عليه السلام: «في البينتين تختلفان في الشيء الواحد يدّعيه الرجلان، أنه يقرع بينهما فيه إذا عدلت بينة كلّ واحد منهما وليس في أيديهما، فأما إن كان في أيديهما فهو فيما بينهما نصفان، وإن كان في يد أحدهما فالبيّنة فيه على المدّعى واليمين على المدّعى عليه»(15).
هذا، وعن ابن أبي عقيل اعتبار القرعة التي هي لكلّ أمر مشكل في خصوص ما نحن فيه، لأن التنصيف تكذيب للبينتين.
وأشكل عليه في (الجواهر) بقوله: كأنه اجتهاد في مقابلة النص(16).
وفيه: إنه ليس اجتهاداً في مقابلة النص، بل لعلّه يخدش في ظواهر هذه النصوص.
قلت: لكن مقتضى النصوص توجّه اليمين على من خرج اسمه، لا أنه يقضى لمن خرج اسمه، فإن حلف قضي له وإلا احلف الآخر وقضي له بحلفه.
وعن ابن الجنيد: التحالف مع تساوي البينتين، فإن حلف أحدهما استحق الجميع، وإن حلفا اقتسماها، ومع اختلاف البينتين يقرع، فمن أخرجته القرعة حلف وأخذ العين(17).
قال في (الجواهر): لا دليل عليه، بل ظاهر الأدلة السابقة خلافه.
ثم نقل في (الجواهر) عن الرياض أنه بعد أن نسب المختار ـ الذي هو التنصيف، تساوت البينتان عدداً وعدالة وإطلاقاً وتقييداً أو اختلفت ـ إلى الأشهر بل عامة من تأخر إلا نادراً. قال: «خلافاً للمهذب، وبه قال جماعة من القدماء، فخصّوا ذلك بما إذا تساويا في الامور المتقدّمة كلّها، وحكموا مع الإختلاف فيها لأرجحها، واختلفوا في بيان المرجح لها، فعن المفيد اعتبار الأعدليّة خاصة هنا وإن اعتبر الأكثرية في غيرها، وعن الإسكافي اعتبار الأكثرية خاصة، وفي المهذب اعتبارهما مرتباً بينهما الأعدلية فالأكثرية، وعن ابن حمزة في اعتباره التقييد أيضاً مردداً بين الثلاثة غير مرتب بينها، وعن الديلمي اعتبار المرجح مطلقاً غير مبين له أصلاً» قال في (الجواهر): ولم أعرف نقل هذه الأقوال على الوجه المزبور فيما نحن فيه لغيره… وعلى كلّ حال لا أعرف دليلاً يعتدّ به على شيء منها على وجه يصلح لمعارضة ما عرفت(18).
هذا كلّه في الصورة الأولى.
(1) شرائع الإسلام 4 : 110.
(2) مسالك الأفهام 14 : 81.
(3) مسالك الأفهام 14 : 81 . جواهر الكلام 40 : 410.
(4) جواهر الكلام 40 : 411 . تحرير الاحكام 5 : 185/6540.
(5) المهذب البارع 4 : 496.
(6) التنقيح الرائع في شرح مختصر الشرائع 4 : 281.
(7) وسائل الشيعة 27 : 250/2 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 12.
(8) جواهر الكلام 40 : 411 ـ 412.
(9) مرآة العقول 24 : 287.
(10) وسائل الشيعة 27 : 258/5 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 13.
(11) وسائل الشيعة 27 : 251/4 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 12.
(12) وسائل الشيعة 17 : 200 الباب 9 من أبواب أحكام الصلح « عن أبي عبد الله عليه السلام في رجلين كان معهما درهمان فقال أحدهما: الدرهمان لي، وقال الآخر: هما بيني وبينك. فقال: أما الذي قال هما بيني وبينك، فقد أقرّ بأن أحد الدرهمين ليس له وأنه لصاحبه، ويقسم الآخر بينهما ».
(13) وسائل الشيعة 19 : 15/1 . أبواب المضاربة ، الباب 1.
(14) سنن البيهقي 10 : 255.
(15) أقول: إن هذه الأدلة بعضها مرسل وبعضها مطلق يقيّده خبر إسحاق بن عمار، فيكون الوجه ما ذهب إليه السيد الاستاذ دام بقاه، إلا إذا قيل بعدم تمامية سند الخبر المذكور من جهة عدم ثبوت عمل المشهور به أو من عدم جهة الموافقة على جبر الشهرة لضعف الخبر.
(16) جواهر الكلام 40 : 412 ـ 413.
(17) مختلف الشيعة 8 : 372 . كشف اللثام 10 : 191 ـ 192.
(18) المهذب البارع 4 : 494 . المقنعة : 730 . الوسيلة : 218 . المراسم : 234 . رياض المسائل 15 : 213 . جواهر الكلام 40 : 414 ـ 415.