هل تفتقر صحة الدّعوى إلى الكشف؟
قال المحقق: «ولا تفتقر صحة الدعوى إلى الكشف في النكاح ولا في غيره»(1).
أقول: إنّ صحة الدّعوى التي اشترطناها لا تحتاج إلى الكشف والتحقيق عن الأسباب، سواء كانت الدعوى في الأملاك من الأعيان والديون أو في العقود من النكاح وغيره، وقد نبّه بذكر النكاح على خلاف بعض العامة فيه، ودليلنا على عدم الحاجة هو الإجماع.
قال: «وربما افتقرت إلى ذلك في دعوى القتل، لأن فائته لا يستدرك»(2).
أقول: لأن للقتل أقساماً وأسباباً مختلفة، من العمد والخطاء وشبه العمد، ومن أن القتل مستند إليه بالمباشرة أو بالتسبيب، وأنه هل وقع منه منفرداً أو شاركه فيه غيره… فلكلّ واحد من هذه الأقسام والحالات حكم، فلو أجمل في الدعوى لم يترتّب حكم واحد منها، فلابدّ من الكشف وذكر التفصيل وإلا لم تصح دعوى القتل ولا تسمع.
وفي (الجواهر) ـ كما عن جماعة ـ الإشكال في ذلك، وقد يستفاد أيضاً من تعبير المحقق بـ «ربما»، وذلك لأنه قد يترتب على الإجمال أثر كلّي، بل قيل: إنه يمكن بحكم الأصل تشخيص أنه خطأ، بل ربما ظهر من المحقق الأردبيلي سماع دعوى الكلّي وإن لم يترتب عليه حكم، ولكنه مقدمة لإثبات الخصوصية فيما بعد(3).
قلت: إن تعيين كونه خطأ بالأصل مشكل جداً، فلو أردنا إجراء هذا الأصل لجرى في الجميع، لكن لو كان لبعض الخصوصيات أثر، وقلنا بكفاية احتمال ترتب الأثر لوجوب السماع، فإنه يجب سماع الدعوى، هذا بعد ثبوت أصل الواقعة، وبالجملة: الأصح هو سماع الدعوى حيث يثبت أصل القضية ثم تثبت خصوصياتها بالموازين الشرعية من البينة واليمين، فيكون الحكم بعد المرحلتين وفاقاً للأردبيلي، وذلك لمقتضى الإحتياط الشديد الموجود في الدماء.
وعلى الجملة: لا فرق بين القتل وغيره في ذلك، فإنه مع فرض عدم ترتب حكم على الكلي في غيره لم تسمع الدعوى به أيضاً وإلا سمعت ـ إن لم يثبت الإجماع على خلافه ـ لشمول أدلّة وجوب القضاء له، ولما جاء في بعض الأخبار من بيان الامام عليه السلام الحكم الشرعي في موارد، مع عدم ذكر المدّعي السبب.
فهذه هي القاعدة الكليّة، وعلى ضوئها يظهر الأمر في مختلف الموارد والأمثلة، فإن كان للكلّي أثر ادّعاه وإن كان للخصوصية أثر ادّعاها، وفي المتباينين تسمع الدعوى إن كان العلم الإجمالي منجّزاً، ومع دوران الأمر بين الأقل والأكثر كان الأقل هو المتيقّن.
قال المحقق: «ولو اقتصرت على قولها: هذا زوجي، كفى في دعوى النكاح، ولا يفتقر ذلك إلى دعوى شيء من حقوق الزوجيّة، لأن ذلك يتضمن دعوى لوازم الزوجية، ولو أنكر النكاح لزمه اليمين، ولو نكل قضى عليه على القول بالنكول، وعلى القول الآخر ترد اليمين عليها، فإذا حلفت ثبتت الزوجية، وكذا السياقة لو كان هو المدّعى»(4).
أقول: إن الأثر الذي ذكرناه لا يلزم التصريح به لدى الدّعوى، بل يكفي دعوى ملازمه، فلو اقتصرت المرأة على قولها: هذا زوجي، كفى في دعوى النكاح وترتب آثاره من حقوق الزوجية ولوازمها، كالمهر والنفقة وغيرهما.
ويترتب على سماع هذه الدعوى أيضاً أنه لو أنكر الزوج النكاح لزمته اليمين، ولو نكل عنها قضي عليه على القول بالقضاء بمجرد النكول، وبردّ اليمين على المرأة على القول الآخر، فإن امتنعت سقطت دعواها، وإن حلف ثبتت الزوجية، وعن (التحرير) «وفي تمكين الزوج منها إشكال، من إقراره على نفسه بتحريمها، ومن حكم الحاكم بالزوجية»(5).
وكذا الكلام لو كان الرجل هو المدّعي للزوجيّة، إذ يترتب على ذلك الآثار الشرعية وحقوق الزوجية، والإشكال المذكور موجود، من إنكار المرأة للزوجية فلا يجوز لها تمكينه من نفسها، ومن حكم الحاكم بالزوجيّة.
أقول: أما بالنسبة إلى الحاكم نفسه، فهل ينهى الزوج المقرّ بحرمتها على نفسه عن وطئ المرأة ـ مع إلزامه بدفع النفقة مثلاً ـ أخذاً بإقراره، أو لا ينهاه عن ذلك، ترتيباً لجميع آثار الزوجية التي قد حكم بها؟ وجهان. اللهم إلا أن نلغي اعتبار الإقرار في هذه الحالة فيقدّم الثاني، لكن لا يفتي بذلك أحد… نعم، لا يبعد الإلغاء فيما إذا كان الإقرار عن نسيان مثلاً ثم تذكّر ورجع عنه بعد قيام البينة. فالصحيح: إن الإقرار بالنسبة إلى ما كان على الزوج مقدّم على الحكم، إذ لا يقول أحد بإلغاء الإقرار في هذه الحالة.
وأما وظيفة الزوج المنكر للزوجية، فإن كان عالماً بعدم الزوجيّة، فإن مقتضى قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «فأيما امرء قطعت له…»(6) هو عدم جواز ترتيب آثار الحكم مثل الوطئ، وأما دفع النفقة فليس محرماً عليه بل يجب عليه امتثالاً وتنفيذاً للحكم، بل يحرم على المرأة أخذها، وهل يجوز لها الأخذ في مقابل بقائها في دار الرجل؟ فيه إشكال، وأما إذا كان إنكاره لها من جهة الشك مثلاً فإن جميع الآثار مترتبة بالحكم.
وأما إذا كان المدّعي للزوجية هو الرجل والمرأة تنكر، فإن كانت تعلم بعدم الزوجية، كان عليها الإمتناع عن التمكين، ولا يجوز لها المطالبة بالنفقة، وإن كانت تنكر كاذبة أو شاكة وجب عليها ترتيب الأثر على الحكم.
وأما المهر، فإن الرجل إن ألزمها بالتمكين ووطئها عملاً بحكم الحاكم، فقد وجب عليه دفع مهر المثل لأنه عوض البضع.
(1) شرائع الإسلام 4 : 107.
(2) شرائع الإسلام 4 : 107.
(3) مجمع الفائدة والبرهان 12 : 124.
(4) شرائع الإسلام 4 : 107.
(5) تحرير الأحكام 5 : 157/6484.
(6) وسائل الشيعة 27 : 232/1 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 2.