هل تعتبر المروة؟
بقي شيء: وهو أن المحقق قدّس سرّه لم يتعرّض للمروّة، فهل هي جزء من العدالة أو شرط في قبول الشهادة، أو لا؟
قال في (الجواهر): كأن المحقق لم يجعل ترك المروّة قادحاً في العدالة أو يتوقف في ذلك، وهو قول محكي عن بعض العلماء، من حيث أن منافيها مناف للعادة لا الشرع.
والمحكي عن الأشهر: اعتبارها في الشهادة، فالمشهور على أنها شطر من العدالة، وقيل: هي خارجة عنها لكنها شرط في قبول الشهادة كالعدالة، وقد أغرب العلامة في القواعد حيث جمع بين الأمرين، فجعلها جزء من العدالة(1) ثم جعلها شرطاً آخر كالعدالة(2) لقبول الشهادة(3).
هذا بالنسبة إلى الأقوال(4).
وأما معنى المروّة، ففي اللغة: الإنسانية أو الرجولية(5)، والمراد بلوغ حدّ الكمال فيهما، وفي الإصطلاح كما في (كشف اللثام) هيئة نفسانية يحمل الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات(6).
وفي (المسالك): في ضبط المروّة عبارات متقاربة… فذكر جملة من تلك العبارات… ومختاره: عدم قبول شهادة من لا مروّة له(7)، وسنذكر دليله والنظر فيه.
وفي (الجواهر): لا إشكال في ردّ الشهادة بمنافيها إذا رجع إلى محرّم أو خبل، لمنافاة الأول للتقوى، والثاني لكمال العقل. وأما مالا يرجع إلى ذلك، فقد يشكل اعتباره في الشهادة أو العدالة بإطلاق الأدلة.
ثم إنه قد استدلّ للإعتبار بوجوه:
الأوّل: فتوى المعظم:
لكن فتوى المشهور ليس بمستند إلاّ إذا حصل الإطمينان بها بالدليل الشرعي، من جهة أن معظم الأصحاب لا يفتون بشي إلا بدليل معتمد.
الثاني: فحوى ما ورد في ردّ شهادة السائل بكفه(8).
قلت: من ذلك:
ما رواه علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن موسى عليهما السلام «قال: سألته عن السائل الذي يسأل بكفه، هل تقبل شهادته؟ فقال: كان أبي لا يقبل شهادته إذا سأل في كفه»(9).
وما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام: قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «شهادة السائل الذي يسأل في كفه لا تقبل…»(10).
وما رواه علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال: «سألته عن السائل بكفّه، أتجوز شهادته؟ فقال: كان أبي يقول: لا تقبل شهادة السائل بكفه»(11).
وما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «رد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم شهادة السائل الذي يسأل في كفه، قال أبو جعفر عليه السلام لأنه لا يؤمن على الشهادة، وذلك لأنه إن أُعطي رضي وإن منع سخط»(12).
فالسؤال بالكف ينافي المروّة، وقد استثنى بعضهم سؤال مستحق الخمس أو الزكاة ممن يجب عليه ذلك، لأن السخط على من لا يحسن لأجل عدم الإحسان معصية، ولا أقلّ من أن يسلب السؤال بالكف الإطمينان والوثوق بكلامه وشهادته، لأن من لا يحفظ كرامته أمام الناس لشي يعطى أو يمنع، فإنه لا يحفظ أعراض الآخرين وكرامتهم بالأولويّة. هذا وجه الإستدلال.
وفيه: إن الحكمة التي ذكرها الإمام عليه السلام في صحيحه محمد بن مسلم تفيد أن السائل بكفه لا ينفك غالباً عن المعصية، سواء رضي أو سخط، كما نشاهد في مجتمعنا بالعيان، فالسؤال بالكف ينافي العدالة، وحينئذ، لا مجال للأولوية، حتى يكون فحوى هذه الأخبار دليلاً على اعتبار المروّة والقول بسقوط شهادة من يجتنب الكبائر ويأتي بالواجبات لكنه يقوم ببعض المنافيات للمروة أحياناً.
ومما ذكرنا ينقدح عدم الوجه لاندراجه في الظنين، وهو الوجه:
الثالث: وهو ما ذكره بقوله: ولعلّ منه ينقدح اندراجه في الظنين الذي استفاضت النصوص في ردّ شهادته(13):
منها: خبر ابن سنان: «قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما يرد من الشهود؟ قال فقال: الظنين والمتّهم. قال: قلت: فالفاسق والخائن؟ قال: ذلك يدخل في الظنين»(14).
ومنها: خبر سليمان بن خالد قال: «سألت أبا عبد الله عليه السلام، وذكر مثله إلا انّه قال: الظنين والخصم»(15).
ومنها: خبر أبي بصير قال: «سألت أبا عبد الله عليه السلام، وذكر مثله إلا أنه قال: الظنين والمتّهم والخصم»(16).
ومنها: خبر الحلبي قال: «سئل أبو عبد الله عليه السلام عما يردّ من الشهود فقال: الظنين والمتهم والخصم. قال قلت: فالفاسق والخائن؟ فقال: هذا يدخل في الظنين»(17).
ومنها: خبر محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام «قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لم تجز شهادة الصبي ولا خصم ولا متهم ولا ظنين»(18).
لظهور تلك الأخبار في عدم انفكاك السائل بكفه عن المعصية المسقطة للعدالة والموجبة لردّ الشهادة، فلا يندرج تحت عنوان «الظنين».
الرابع: قول الكاظم عليه السلام: «لا دين لمن لا مروّة له، ولا مروّة لمن لا عقل له»(19).
وفيه: ما ذكره صاحب (الجواهر)، ضرورة إرادة الكمال الزائد على وصف العدالة منه(20)، فيكون نظير «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد»(21).
الخامس: ما قيل من أنه يشعر به ما في بعض النصوص: «من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدّثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروته، وظهرت عدالته، ووجبت اخوته، وحرمت غيبته»(22).
وفيه: إن الظلم والكذب محرّمان يخلاّن بأصل العدالة، وكذا خلف الوعد بناءاً على كونه من الكذب، إذن، ليس المراد من المروّة في الخبر ما ذكروه في معناها لغة واصطلاحاً.
السادس: إن فاقد المروّة غير مرضي الشهادة عرفاً، فلا يدخل في قوله تعالى : (مِمَنْ تَرضُون)(23).
قلت: عن أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الآية المباركة قال: «ممن ترضون دينه وأمانته وصلاحه وعفته وتيقظه فيما يشهد به وتحصيله وتمييزه، فما كلّ صالح مميزاً ولا محصّلاً، ولا كلّ محصل مميز صالح»(24).
والظاهر: إنه أجنبي عن محلّ الكلام، لأنه ساكت عن الامور المتعارفة بين الناس وسلوكه في المجتمع بحسب العادات والأخلاق العرفية المتبعة…
السابع: أصالة عدم ترتب أحكام العدالة على فاقد المروّة بعد عدم الوثوق بإطلاق يتناوله…
أقول: لا مجال لهذا الأصل بعد سكوت صحيحة ابن أبي عمير عن اعتبار المروّة، إذ لو كانت شطراً من العدالة لذكرت في الصحيحة، مع كون الإمام عليه السلام في مقام بيان العدالة وخصوصياتها، لا سيما بناءاً على القول بالحقيقة الشرعية للفظ «العدالة»، وحينئذ يكون الأصل في اعتبار شيء زائداً على ما في الصحيحة هو العدم.
وليس هذا الشك في الاعتبار مسبباً عن الشك في مفهوم العدالة، ولو سلّم، فإن هذه السببية شرعيّة والمرجع فيها هو الشرع، فلما كان الوضوء سبباً شرعياً لحصول الطهارة، كان على الشارع بيان الوضوء، فإن شك في جزئية شيء فيه ولم يذكره، كان الأصل عدم الجزئية.
فظهر بما ذكرنا: الإشكال في جميع الوجوه التي ذكرها صاحب (الجواهر) لاعتبار المروّة.
وأما ما ذكره صاحب (المسالك) في وجه عدم قبول شهادة من لا مروّة له من «أن طرح المروّة إما أن يكون بخبل ونقصان أو قلة مبالاة وحياء، وعلى التقديرين يبطل الثقة والاعتماد على قوله. أما الأوّل فظاهر، وأما قليل الحياء، فمن لا حياء له يصنع ما شاء كما ورد في الخبر»(25).
ففيه: إن المراد من الحياء في هذا الخبر ونحوه هو الحياء من الله عزّوجلّ، لا الحياء في الامور العرفيّة والعاديّة، ومن الواضح أن من لا يستحي من الله سبحانه ففيه اقتضاء أن يفعل ما شاء، وعدم الحياء بهذا المعنى الظاهر من الخبر ينافي العدالة، بل هو كفر بالله عزّوجلّ، وهذا معنى الخبر: «لا إيمان لمن لا حياء له»(26).
(1) قواعد الأحكام 3 : 494.
(2) قواعد الأحكام 3 : 495.
(3) جواهر الكلام 41 : 30 31.
(4) كما في الجواهر. وفي رسالة الشيخ الأعظم ( رسائل فقهيّة : 17 ): المشهور بين من تأخر عن العلامة اعتبار المروة في مفهوم العدالة، وهو الذي يلوح من عبارة المبسوط أما كلام غير الشيخ ممن تقدم على العلامة فلا دلالة فيه بل ولا إشعار على ذلك. وممن لم يعتبر المروّة في العدالة: المحقق في الشرائع والنافع، وتبعه العلامة في الإرشاد وولده في موضع من الإيضاح، وهو ظاهر الشهيد في النكت. قال الشيخ: والحاصل: إنه لو ادعى المتتبع أن المشهور بين من تقدم على العلامة عدم اعتبار المروة في العدالة، خصوصاً في غير الشاهد، لم يستبعد ذلك منه، لما عرفت من كلمات من عدا الشيخ، وأما الشيخ فالعدالة المذكورة في كلامه لا تنطبق على ما ذكره المتأخرون. قال: وينبغي الجزم بعدم اعتبارها في العدالة المعتبرة في الإمام.
(5) تاج العروس 1 : 117 ، لسان العرب 1 : 154 ، الصحاح 1 : 72 ، كتاب العين 8 : 299.
(6) كشف اللثام 10 : 300.
(7) مسالك الأفهام 14 : 169.
(8) جواهر الكلام 41 : 32 . وسيأتي الكلام في ذلك بالتفصيل.
(9) وسائل الشيعة 27 : 382/1 . كتاب الشهادات ، الباب 35.
(10) وسائل الشيعة 27 : 382/2 ، ذيل الحديث . كتاب الشهادات ، الباب 35.
(11) وسائل الشيعة 27 : 383/3 . كتاب الشهادات ، الباب 35.
(12) وسائل الشيعة 27 : 382/2 . كتاب الشهادات ، الباب 35.
(13) جواهر الكلام 41 : 33.
(14) وسائل الشيعة 27 : 373/1 . كتاب الشهادات ، الباب 30.
(15) وسائل الشيعة 27 : 373/2 . كتاب الشهادات ، الباب 30.
(16) وسائل الشيعة 27 : 373/3 . كتاب الشهادات ، الباب 30.
(17) وسائل الشيعة 27 : 374/5 . كتاب الشهادات ، الباب 30.
(18) وسائل الشيعة 27 : 374/6 . كتاب الشهادات ، الباب 30.
(19) الكافي 1 : 15/12.
(20) جواهر الكلام 41 : 33.
(21) وسائل الشيعة 5 : 194/1 . أبواب أحكام المساجد ، الباب 2.
(22) وسائل الشيعة 27 : 396/15 . كتاب الشهادات ، الباب 41.
(23) سورة البقرة 2 : 282.
(24) وسائل الشيعة 27 : 399/23 . كتاب الشهادات ، الباب 41.
(25) مسالك الأفهام 14 : 169.
(26) الكافي 6 : 460/3.