هل الشهادة بقدم الملك أولى؟
قال المحقق قدّس سرّه: «والشهادة بقدم الملك أولى من الشهادة بالحادث مثل أن تشهد احداهما بالملك في الحال والاخرى بقديمه، أو احداهما بالقديم والاخرى بالأقدم، فالترجيح لجانب الأقدم»(1).
أقول: إذا تعارضت البينتان في الملك، ولكن اختصت احداهما بزيادة التاريخ، بأن قالت احداهما بأن هذه العين لزيد في الحال وقالت الاخرى هي لعمرو منذ سنة، أو قالت تلك: هي لزيد منذ سنة، وقالت هذه هي لعمرو منذ سنتين، فهل زيادة التاريخ والشهادة بقدم الملك يوجب الأولوية والترجيح لبينة عمرو أولا؟ ذهب المحقق إلى الأول، وجعل العلامة في (القواعد) اشتمال احدى البينتين على زيادة كزيادة التاريخ من أسباب ترجيح البينة(2)، وفي (الجواهر) نسبة هذا القول إلى الشيخ وابني إدريس وحمزة، بل في (المسالك) نسبته إلى المشهور(3).
و وجه تقديم متقدمة التاريخ هو: إن تلك البينة تثبت الملك لعمرو في وقت لا تعارضها البينة الاخرى فيه وهو السنة الاولى في المثال، وإنما تعارضها فيها بعدها، فتتساقطان في محل التعارض ويثبت الملك لعمرو في السنة الاولى بلا معارض ـ ولهذا كان له المطالبة بالنماء في ذلك الزمان ـ والأصل في الثابت دوامه.
قال في (الجواهر): ولم أجد في شيء من النصوص إشارة إليه، إلا ما في صحيح ابن سنان عن الصادق عليه السلام عن علي عليه السلام: «وكان إذا اختصم إليه الخصمان في جارية، فزعم أحدهما أنه اشتراها وزعم الآخر أنه أنتجها، فكانا إذا أقاما البيّنة جميعاً قضى بها للذي أنتجت عنده»(4).
أقول: «كان» ظاهر في الإستمرار، لكن من البعيد تكرّر هذه الواقعة بحيث يصح التعبير بهذا اللفظ، إلا أن يكون الحكم متكرراً و يقصد التمثيل بقضيّة الجارية. وقوله: «قضى للذي أنتجت عنده» له ظهور في كونه ذايد، فتكون الصحيحة في غير ما نحن فيه، لأن المسألة مفروضة فيما إذا كان مورد الدعوى في يد ثالث… وكيف كان، فالإستناد إليها في هذا المقام محلّ تأمّل.
فهذا هو الذي ذهب إليه المشهور.
وعن غير واحد من الأصحاب: إحتمال التساوي بين البينتين وعدم تقدّم المتقدمة التاريخ، بل احتملوا تقدّم المتأخرة، لأنها تشهد بانتقالها من زيد إلى عمرو، وتلك تشهد بكونها لزيد منذ سنتين ولا تنفي انتقالها عنه، وإذا لم تقدم لإمكان استناد شهادتها إلى اليد ـ وهي تحتمل الملك وغيره ـ فلا أقل من التساوي.
وأما إذا شهدت المتأخرة التاريخ بسبب الملك، كما لو شهدت بأن عمراً اشتراها من زيد، قدّمت على الاخرى قطعاً، خلافاً للعلامة في (التحرير)(5)لأنها لمّا صرّحت بالشراء علم أنها اطّلعت على ما لم تطّلع عليه الاخرى، فإن تلك وإن شهدت بأنها ملك زيد من ابتداء سنتين مثلاً إلى الآن، لكن غايته أنهما علما بكونها ملكه ولم يعلما بمزيله في المدة.
أقول: ومقتضى قاعدة تقدّم الإثبات هو تقديم البينة المتأخرة التاريخ مطلقاً، أي سواء أطلقت أو ذكرت السبب، خلافاً للمشهور في الأول وللتحرير في الثاني. وأما ما ذكره في (الجواهر) تبعاً لكاشف اللثام من «أن هذه البينة لما لم تتعرّض لسبب الملك، أمكن استناد شهادتها إلى اليد وهي تحتمل الملك وغيره، ويمكن أن تكون الاخرى أيضاً تعلم اليد وأنها لغير الملك فلذا حكمنا بالتساوي»(6) فخروج عن فرض المسألة، لأنها مفروضة فيما إذا كان الشيء في يد ثالث، وسيصرّح بذلك صاحب (الجواهر) نفسه بقوله: «هذا كلّه، مع كون المشهود عليه ليس في يد أحدهما».
وكيف كان، فلا يمكن المساعدة على ما ذهب إليه المشهور.
فإن لم تقدم المتأخرة التاريخ، تتعارضان وتتساقطان، ويكون المرجع هو الأصل، ومقتضاه كون العين لزيد.
ولو أطلقت احداهما وأرّخت الاخرى، قيل: تساوتا، لاحتمال الاطلاق، هذا التاريخ وغيره، زائداً أو ناقصاً، فلا زيادة في احداهما على الاخرى إلا بالتعرّض للتاريخ، وهو مما لا يؤكد الملك ليتسبب الترجيح.
وفيه: إن المتّجه تقديم المطلقة مع العلم باستناد المؤرخة إلى الإستصحاب الذي قد عرفت عدم معارضته للبينة التي تقتضي انقطاعه، أما إذا لم يعلم، فالمتّجه العمل بالإستصحاب أيضاً، اقتصاراً في تساقطهما على ما علم تعارضهما فيه وهو الملك في الحال، فيبقي غيره مستصحباً.
ولو شهدت احداهما بسبب الملك كالشراء مثلاً فقيل: تقدم على المطلقة، قال في (الجواهر): وقد مرّ في خبر أبي بصير ما يؤيده في الجملة.
وفيه: كما في (الجواهر)(7) أيضاً إنه كما يحتمل أن يكون حكم الإمام عليه السلام فيه من جهة تقديم البينة المقيدة على المطلقة، كذلك يحتمل أن تكون بينة المدعي متقدمة تاريخاً، فمن هذه الجهة حكم الإمام بكونها للذي ادّعي الدار وأقام البينة عليها، ولعلّه من هنا قال: يؤيّده في الجملة.
هذا كلّه إذا لم تكن العين في يد أحد المتداعيين.
وأما إذا كانت في يد أحدهما، فإن كانت بيّنة الداخل أسبق تاريخاً ـ قال في (المسالك) ـ فهو المقدّم لا محالة(8)، وعن (الخلاف) نفي الخلاف فيه، و ذلك لاجتماع مرجحين فيه، وهما اليد وزيادة التاريخ.
لكن في (القواعد): ولو شهدت لذي اليد بالقدم، تعارض رجحان التقدم إن قلنا به وكون الآخر خارجاً(9).
قال في (كشف اللثام): فيحتمل التساوي لاشتمال كلّ على مرجّح، وتقديم الخارج لعموم دليله، وهو الأقوى، والعكس كما في المبسوط(10)والخلاف(11) ونفي فيه الخلاف، لاجتماع مرجّحين فيه ولعموم دليله. ويضعّف: بأن دليله إن تم نزلت بينة الخارج منزلة العدم، ولا عبرة ببيّنة الداخل إذا لم يكن للخارج بيّنة، وبأنه على القول بترجيح بيّنة الخارج لا عبرة ببينة الداخل أصلاً، لأنها ليست من شأنه، وإذا لم تعتبر لم يكن لترجيحها بالقدمة أو غيرها معنى(12).
وفي (الجواهر): الظاهر بناء الأول على القول بأن للداخل بينة مسموعة، وحينئذ يتوجّه ترجيحها بالأمرين، وتنزيل بيّنة الخارج منزله العدم إنما هو لمعارضة بيّنة الداخل، فلا وجه للقول بأنه لا عبرة ببيّنة الداخل إذا لم يكن للخارج بينة(13)…
أقول: إنه في صورة وجود البيّنة للخارج دون الداخل، فلا ريب في أنه يحكم له كما هو واضح، وإن لم يكن له بينة حلف ذواليد، وإن كان لكليهما بينة ـ والمفروض حجية بينة ذي اليد أخذاً بعموم دليل حجية البينة ـ فلا وجه للقول بالتساقط، بل تقدم بينة ذي اليد لوجود المرجحين المذكورين، فما ذكره صاحب (الجواهر) هو الظاهر، لكن المختار عندنا أن بينة الداخل غير مسموعة مطلقاً، كما تقدم ويأتي.
وإن كانت بينة الخارج أسبق تاريخاً، ففي (الجواهر) عن الخلاف الجزم بتقديم بينة الداخل كذلك مدّعياً عليه الإجماع والأخبار، ولعلّه لأن البينة بقدم الملك لم تسقط بها اليد، كرجل ادّعى داراً في يد رجل وأقام بينة بأنها كانت له أمس لم تزل بها فكذلك هنا، لكن في (كشف اللثام): يقوى تقديم الخارج كما في المبسوط ، لأن بينته في الزمان المختص بها غير معارضة(14).
وفي (المسالك) ذكر ثلاثة أوجه:
أحدها: ترجيح اليد، لأن البيّنتين متساويتان في إثبات الملك في الحال فتتساقطان فيه، ويبقى من أحد الطرفين اليد ومن الآخر إثبات الملك السابق، واليد أقوى من الشهادة على الملك السابق، ولهذا لا يزال بها.
والثاني: ترجيح السبق، لأن مع إحداهما ترجيحاً من جهة البينة ومع الاخرى ترجيحاً من جهة اليد، والبينة تتقدّم على اليد، فكذلك الترجيح من جهتها مقدّم على الترجيح من جهة اليد.
والثالث: إنهما متساويان لتعارض البينتين(15).
أقول: إن كان للداخل بينة وهي مسموعة، فعلى هذا المبنى تتقدّم بيّنته في هذه الصورة كالصورة السابقة، وأما على المختار من أنه لا بينة للداخل، لكون قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «البينة على المدّعي و اليمين على من أنكر» مخصّصاً لعموم أدلّة الشهادة، فلا ريب في تقدّم بينة الخارج، لأن بينة ذي اليد غير مسموعة، ويده لا تصلح لمعارضة بينة الخارج.
هذا، وفي (المسالك): إعلم أن إطلاق عبارة المصنّف يقتضي عدم اشتراط إضافة البينة بالملك القديم والتعرض لذلك في الحال، وهو أحد الوجهين في المسألة، لأن الملك إذا ثبت سابقاً فالأصل فيه الدوام والإستمرار، فلا يفتقر إلى التصريح باستمراره.
والثاني ـ وهو المشهور ـ: إن الشهادة بالملك القديم لا تسمع حتى يقول: وهو في ملكه في الحال، ولا أعلم له مزيلاً، حتى لو قال: لا أدري زال أم لا، لم يقبل، لأن ثبوت الملك سابقاً إن اقتضى بقاءه فيد المدّعى عليه وتصرّفه يدل على الإنتقال إليه، فلا يحصل ظن الملك في الحال، ولأن دعوى الملك السابق لا تسمع فكذلك البينة عليه، وعلّلوا عدم قبول الشهادة مع قوله لا أدري زال أم لا ـ مع أن مؤدّاها قريب من قوله لا علم له مزيلاً ـ: بأن الأولى تقتضي تردداً وريبة، فهي بعيدة عن أداء الشهادة(16)..
وفيه نظر: لأن الجزم الواقع في الشهادة بالصيغتين الاوليين إنما استند إلى استصحاب الملك وظن الاستمرار مع عدم ظهور المنافي، وإلا فالتعبير بالاستمرار لا يتفق، لأن الأسباب الموجبة لانتقال الملك عن المشهود له لا يمكن القطع بعدمها وإن صحبه الشاهد ليلاً ونهاراً، فإن منها ما يمكن وقوعه سرّاً بنفسه مع نفسه، والإستناد إلى الإستصحاب وظن الاستمرار يتأدى بقوله: لا أدري زال أم لا كما يتأدّي بقوله: وهو ملكه في الحال، لأنه إذا لم يدر هل زال أم لا، جاز له استصحاب البقاء والحكم به في الحال، وكون الصيغة بعيدة عن أداء الشهادة في حيّز المنع.
ومن ثم ذهب بعضهم إلى عدم اشتراط الضميمة، مع أن الشهادة بالملك السابق لا ينافي العلم بتجدّد انتقاله عنه، فمع إضافته ما ينافي العلم بالانتقال أولى.
والحق: إن إطلاق الشهادة بالملك القديم لا يسمع، لعدم التنافي بين كونه ملكاً له بالأمس مع تجدّد انتقاله عنه اليوم وإن كان الشاهد يعلم بذلك، بل لابدّ من إضافة ما يفيد عدم علمه بتجدّد الإنتقال، وذلك يتحقق بهذه الصيغ وإن كان الاقتصار على ما لا يشتمل على التردّد أولى.
(1) شرائع الإسلام 4 : 112.
(2) قواعد الأحكام 3 : 489.
(3) جواهر الكلام 40 : 437.
(4) وسائل الشيعة 27 : 255/15 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 12.
(5) تحرير الأحكام 5 : 188/6544.
(6) جواهر الكلام 40 : 438.
(7) جواهر الكلام 40 : 439.
(8) مسالك الأفهام 14 : 93.
(9) قواعد الأحكام 3 : 490.
(10) المبسوط في فقه الامامية 8 : 280.
(11) كتاب الخلاف 6 : 342 ، المسألة 15.
(12) كشف اللثام 10 : 259.
(13) جواهر الكلام 40 : 440.
(14) جواهر الكلام 40 : 440.
(15) مسالك الأفهام 14 : 93.
(16) مسالك الأفهام 14 : 93 ـ 94.