ما ينهى إلى الحاكم:
قال المحقق قدّس سرّه: «وما ينهى إلى الحاكم أمران: أحدهما: حكم وقع بين المتخاصمين. والثاني: إثبات دعوى مدع على غائب.
أما الأول: فإن حضر شاهدا الإنهاء خصومة الخصمين وسمعا ما حكم به الحاكم وأشهدهما على حكمه، ثم شهدا بالحكم عند الآخر، ثبت بشهادتهما حكم ذلك الحاكم وأنفذ ما ثبت عنده، لا أنه يحكم بصحة الحكم في نفس الأمر، إذ لا علم له بذلك، بل الفائدة فيه قطع خصومة الخصمين لو عاودا المنازعة في تلك الواقعة.
وإن لم يحضرا الخصومة، فحكى لهما الواقعة وصورة الحكم، سمّى المتحاكمين بأسمائهما وآبائهما وصفاتهما وأشهدهما على الحكم، ففيه تردد، والقبول أولى، لأن حكمه كما كان ماضياً كان إخباره ماضياً»(1).
أقول: إن الذي ينهيه الحاكم الأول بالكتاب إلى الحاكم الثاني أمران:
أحدهما: الحكم الذي حكم به بين المتخاصمين، فإن حضر شاهدا الإنهاء مجلس التخاصم وسمعا ما حكم به الحاكم في الواقعة، بل وأشهدهما على حكمه، ثم جاءا فشهدا بحكم الحاكم الأول عند الثاني، فإنه يثبت بذلك حكم ذلك الحاكم، وعلى الثاني إنفاذه وفصل الخصومة المتجددة بين الخصمين في نفس تلك الواقعة، وليس له الحكم بصحّة حكم الأول في الواقع، لأنه لا علم له بذلك، وقد نهى الشارع عن القول بلا علم.
وإن لم يحضر شاهدا الإنهاء مجلس التخاصم، بل حكى الحاكم الأول لهما الواقعة، شارحاً صورة النزاع وحضور المتنازعين عنده وصورة حكمه، وذكر المتحاكمين بأسمائهما وأسماء آبائهما وصفاتهما المشخصة، وأشهد الشاهدين على حكمه، ففي ثبوت الحكم بشهادتهما عند الحاكم الثاني تردّد عند المحقق قدّس سرّه، لكن قال «والقبول أولى» قال في (الجواهر): «وفاقاً للأكثر، بل لم أجد فيه خلافاً، سوى ما يحكى عن الشيخ في الخلاف، بل قيل: إن ظاهره دعوى الاجماع عليه، إلا أني لم أجد من وافقه عليه سوى بعض متأخري المتأخرين، بناء منهم على أن الأصل يقتضي عدم جواز الإنفاذ في غير صورة القطع، لأنه قول بغير علم، خرج ما خرج وبقي ما بقي»(2).
وقد رجّح المحقق هنا القبول بعد التردد(3) ـ بخلاف مسألة الإنهاء بالقول مشافهة حيث تردد فيها بلا ترجيح، حيث قال: «وأما القول مشافهة فهو أن يقول للآخر: حكمت بكذا أو أنفذت أو أمضيت، ففي القضاء به تردد، نصّ الشيخ في الخلاف أنه لا يقبل» وهو كذلك، لما ذكرنا سابقاً من حجية قوله فيما هو مرجوع إليه ومحوّل عليه ولا يعرف إلا من قبله، فإذا أخبر بأني قد حكمت بكذا وأشهد الشاهدين على ذلك، كان إخباره حجة كما لو سمعا بأنفسهما الحكم منه، وكما يلغى احتمال عدم قصده للحكم بالنسبة إلى الإنشاء المسموع منه، فكذلك يلغى احتمال الخلاف بالنسبة إلى إخباره عن ثبوت حكمه، وبذلك ينقطع الأصل الذي تمسّك به المانعون.
قال المحقق: «وأما الثاني ـ وهو إثبات دعوى المدّعي ـ فإن حضر الشاهدان الدعوى وإقامة الشهادة والحكم بما شهدا به، وأشهدهما على نفسه بالحكم وشهدا بذلك عند الآخر، قبلها وأنفذ الحكم، ولو لم يحضرا الواقعة وأشهدهما بما صورته: إن فلان ابن فلان الفلاني، ادّعى على فلان ابن فلان الفلاني كذا، وشهد له بدعواه فلان وفلان، ويذكر عدالتهما أو تزكيتهما، فحكمت أو أمضيت، ففي الحكم به تردّد، مع أن القبول أرجح، خصوصاً مع إحضار الكتاب المتضمن للدعوى وشهادة الشهود»(4).
أقول: هذا هو الأمر الثاني، وهو أيضاً على قسمين:
فالأول: أن يحضر الشاهدان مجلس الحكم على الغائب ويشهدهما الحاكم عليه، فإذا شهدا بذلك عند الحاكم الثاني ثبت الحكم، وكان على الثاني إنفاذه.
والثاني: أن لا يحضر الشاهدان الدعوى بل يخبرهما الحاكم الأول بها وبحكمه في الواقعة، مع ذكر اسم المدّعي والمدّعى عليه وتعريفهما، كأن يخبرهما ويشهدهما بما صورته: إن فلان بن فلان الفلاني ادّعى على فلان ابن فلان الفلاني كذا، وشهد له بدعواه شاهدان عادلان وهما فلان وفلان، فحكمت وأمضيت، فهل يقبل الحاكم الثاني هذه الشهادة ويحكم بذلك؟ تردّد فيه المحقق، ثم رجّح القبول على نحو ما عرفته في المسألة السابقة، خصوصاً مع إحضار الكتاب المتضمّن للدعوى وشهادة الشهود، لكن لما كان الغائب على حجّته إذا قدم، فإنه ينبغي ضبط أسماء الشهود ليتمكن من الجرح ونحوه، وكذا غير ذلك مما له مدخلية في بقاء الخصم الغائب على حجّته.
هذا كلّه في الحكم.
(1) شرائع الإسلام 4 : 97 ـ 98.
(2) جواهر الكلام 40 : 314.
(3) شرائع الإسلام 4 : 96.
(4) شرائع الإسلام 4 : 98.