حكم الإختلاف في الاجرة و لا بينة
إذا اتفقا على استيجار دار معينة شهراً معيناً واختلفا في مقدار الاجرة وقد عدما البينة، فالمشهور على أن القول قول المستأجر بيمينه، سواء كان الإختلاف بعد الاستيفاء أو في أثنائه أو في ابتدائه، بل عن (التذكرة)(1) نسبة هذا القول إلى علمائنا.
وعن الشيخ في (المبسوط)(2) القول بالتحالف، وقد تبعه عليه بعض المتأخرين كما في (الجواهر) و (المسالك)(3).
ووجه ما ذهب إليه المشهور هو: أن المستأجر منكر للزائد الذي يدّعيه عليه الموجر، مع اتفاقهما على ثبوت ما يدّعي المستأجر، وإذ تحقق عنوان المدّعي على الموجر، والمنكر على المستأجر، دخلا في عموم الخبر(4)، فإن حلف المستأجر كان القول قوله وسقطت دعوى الموجر، وإن نكل حكم للموجر، على قول، وردّت اليمين على الموجر، فإن حلف أخذ وإن نكل كذلك سقطت الدعوى، على قول آخر.
ووجه ما ذهب إليه الشيخ في (المبسوط) هو: إن المورد ليس من مصاديق المدّعي والمنكر، بل إن كلاًّ منهما مدّع ومدّعى عليه، لأن ذاك يدّعي وقوع العقد على المأة وينكر وقوعه على الخمسين، وهذا يدّعي وقوعه على الخمسين وينكر وقوعه على المأة، والعقد المتشخص بالمأة غير العقد المتشخص بالخمسين، فقول كليهما موافق للأصل، فتجب اليمين على كليهما، فإذا تحالفا أو امتنعا عن اليمين انفسخ العقد، ورجع الموجر بأجرة المثل(5) للمنفعة المستوفاة كلاًّ ـ إن كان الإختلاف بعد استيفاء المدّة ـ أو بعضاً إن كان في أثنائها، وإلا، كما إذا كان في ابتدائها، فلا شيء للموجر، وقيل: بل يحكم بتنصيف الزيادة، وإن حلف أحدهما وامتنع الآخر ثبتت دعواه وسقطت دعوى الآخر.
وكيف كان، فإن مختار الشيخ في (المبسوط) هو التحالف، وقد ضعّفه في (المسالك): «بأن العقد لا نزاع بينهما فيه ولا في استحقاق العين الموجرة للمستأجر، ولا في استحقاق المقدار الذي يعترف به المستأجر، وإنما النزاع في القدر الزائد، فيرجع فيه إلى عموم الخبر.
ولو كان ما ذكروه من التوجيه موجباً للتحالف لورد في كلّ نزاع على حق مختلف المقدار، كما لو قال: أقرضتك عشرة فقال: لا بل خمسة، فإن عقد القرض المتضمّن لأحد المقدارين غير العقد المتضمن للآخر، وكما لو قال: أبرأتني من عشرة من جملة الدين الذي علي، فقال: بل من خمسة، فإن الصيغة المشتملة على إسقاط احدهما غير الاخرى، وهكذا القول في غيره. وهذا مما لا يقول به أحد.
والحق: إن التحالف إنما يرد حيث لا يتفق الخصمان على قدر ويختلفان في الزائد عنه، كما لو قال الموجر: آجرتك الدار شهراً بدينار، فقال: بل بثوب، أو قال: آجرتك هذه الدار بعشرة، فقال: بل تلك الدار، ونحو ذلك، أما في المتنازع، فالقول المشهور من تقديم قول المستأجر هو الأصح»(6).
قلت: ومثل الإبراء هو الأداء، فلو اختلفا في المقدار الذي أدّاه المدين إلى الدائن زيادة ونقيصة، كان النزاع في القدر الزائد، فيرجع فيه إلى عموم الخبر كذلك ،فملاك الدخول تحت عموم الخبر المشار إليه هو أن يكون بين المتخاصمين اتّفاق على قدر ثم يختلفان في الزائد عن ذلك المقدار، وأما إذا لم يكون اتفاق منهما على قدر فهناك التحالف.
لكن المتّجه عند صاحب (الجواهر) هو النظر إلى مصبّ الدّعوى، فإن كان النزاع في تشخص العقد الذي هو سبب اشتغال الذمة، فهناك التحالف، إذ لا فرق في مشخصات العقد بين زيادة الثمن ونقصانه وبين غير هذين الأمرين من المشخصات، وإن كان النزاع بينهما في طلب الزائد من أحدهما وإنكاره من الآخر، كان من قبيل المدّعي والمنكر.
وبعبارة أخرى: تارة: يكون الإختلاف في كيفية وقوع العقد الموجب لاشتغال الذمة، واخرى: يكون في المقدار الذي اشتغلت به الذمة، ففي الأوّل ـ كما لو قال الموجر قد وقع العقد على المأة، وقال المستأجر على الخمسين ـ التحالف، وفي الثاني كما لو قال الموجر: آجرتك الدار بمأة، فقال المستأجر بل بخمسين ـ يكون الموجر مدّعياً والمستأجر منكراً.
ثم إنه فرق بين النزاع في مال الإجارة والنزاع في القرض والإبراء ونحوهما، ففي القرض مثلاً: إن أقرض المأة فقد أقرض الخمسين التي في ضمن المأة، لأن قوله: أقرضتك المأة ينحلّ إلى الدنانير بعددها، بخلاف الإجارة فلا انحلال لصيغتها بعدد الدنانير المفروضة بدلاً للإيجار، نعم، ينحلّ بنحو آخر، فيكون معنى آجرتك الدار بمأة: آجرتك نصف الدار بخمسين وربعها بخمسة وعشرين ديناراً… وهكذا… كما أن التحالف يتصوّر في القرض لو اختلفا في كيفية وقوع صيغته، كما إذا قال أحدهما: وقع العقد على المأة، وقال الآخر على الخمسين، لكن نتيجة الاختلاف هو الاختلاف في المقدار.
فإن كان مورد النظر في الدعوى هو العقد، فالتداعي والتحالف، وإن كان مورد النظر هو المقدار الذي اشتغلت به الذمة، فالمدّعي والمنكر، وبذلك يمكن عود النزاع لفظيّاً كما اعترف به صاحب (الجواهر).
قلت: والأولى أن نجعل العرف هو المرجع في تشخيص الدّعوى، والظاهر كما ذكر في (الجواهر) في مسأله الاختلاف في قدر الثمن ـ بقطع النظر عن النص الخاص الوارد هناك ـ إن نظر العرف في مورد الاختلاف من حيث الزيادة والنقيصة، سواء في مال الإجارة أو العين المستأجرة، إلى الأثر المالي المترتّب على النزاع، فهم يجعلون من يريد أخذ شيء من طرفه مدّعياً والآخر مدّعى عليه، وليس نظرهم إلى كيفية صدور العقد ووقوعه، فيكون من قبيل المدّعي والمنكر.
وبعبارة اخرى: إن أهل العرف يرجعون الدعاوى إلى المال وما يتعلّق به، فيجعلون من يريد جرّ المنفعة إلى نفسه مدّعياً، ومن يريد دفع الضرر عن نفسه منكراً، وأما النزاع في كيفية وقوع العقد فهو نزاع علمي وليس للعرف فيه مجال.
ولعلّ ما ذكرنا هو وجه التأمل في تأييده كون كلّ منهما مدّعياً عند العرف الذي أمر به صاحب (الجواهر)، وقد ذكرنا أنه رحمه الله قال بما ذكرنا في مسألة الاختلاف في الثمن لولا النص الخاص فيه.
وعن الشيخ في المسألة قولان آخران:
أحدهما: ما عن موضع من (الخلاف) وهو القول بالقرعة مع اليمين(7)، قال في (الجواهر): ولعلّه لإشكال الحال عليه في أنه من التداعي أو من المدّعي والمنكر، لكن قد عرفت أن المرجع هو العرف والأمر عند أهل العرف فيه واضح. قال: ولم يتعرض الشيخ لما إذا نكلا معاً بعدها، فهل تقسم الزيادة بينهما أو يوقف الحكم؟(8)
وجه الأوّل هو: أن ذلك مقتضى الحكم بالعدل، كما ذكرنا سابقاً في مسألة العين التي وقع النزاع عليها وليس لأحدهما يد.
لكن فيه: إن مورد نصوص التنصيف هو العين كما عرفت هناك، ولا وجه لإسراء الحكم من العين إلى الدين، وكونه مقتضى الحكم بالعدل محلّ تأمل.
وأما توقيف الحكم، فإن كان النزاع في ابتداء المدّة فلا بأس، وتكون النتيجة انفساخ العقد، وأما مع استيفاء المدة بعضاً أو كلاًّ، فلا يمكن القول به، كما هو واضح.
قال في (الجواهر): وقد يقال مع الاستيفاء بوجوب دفع أقل الأمرين، من أجرة المثل المفروض كونها أقل مما يدّعيه الموجر، ومن المسمّى الذي يدّعيه المستأجر على الثاني(9).
قلت: هذا غير واضح، لأنه قد يكون المسمّى الذي يدّعيه المستأجر أكثر من اُجرة المثل، فلابدّ من أن يوخذ بمقتضى إقراره.
قال: ويحتمل القرعة بلا يمين(10).
أقول: وجهه ما عرفت من إشكال الحال، وأما عدم اشتراط اليمين فلخلّو بعض أخبار القرعة عنه، لكن قد عرفت أنه لا إشكال في المقام بعد الرجوع إلى العرف.
والثاني: ما عن موضع من (المبسوط)، حيث فرّق بين وقوع النزاع قبل انقضاء المدّة وبعده، وحكم بالتحالف في الأول وتردّد في الثاني بين القرعة وبين تقديم قول المستأجر(11).
قلت: ولعلّ منشأ التردّد في الصورة الثانية بين القرعة التي قال بها في (الخلاف) والتي قد عرفت وجهها، وبين تقديم قول المستأجر: هو ما ذكرناه من نظر العرف، لكن قد عرفت أنه مع ملاحظة نظر العرف لا يبقى إشكال في تقديم قول المستأجر مطلقاً.
ومما ذكرنا يظهر الحكم في كلّ اختلاف يرجع إلى الزيادة والنقيصة وتحقق فيه نظر أهل العرف… هذا كلّه فيما إذا عدما البينة.
(1) تذكرة الفقهاء 2 : 292 ( حجري ).
(2) المبسوط في فقه الإماميّة 3 : 265 ـ 266.
(3) جواهر الكلام 40 : 457 . مسالك الأفهام 14 : 104 . كفاية الاحكام 2 : 734 . الدروس الشرعية 2 : 107 .
(4) يعني قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : البيّنة على من ادّعى واليمين على من ادّعي عليه.
(5) معنى الرجوع إلى اجرة المثل أنه إذا كانت اُجرة المثل أكثر مما يدعيه الموجر كان على المستأجر دفعه مع إقرار الموجر بالأقل، وإذا كان أقل مما يدعيه المستأجر لم يجب عليه دفع المقدار الذي يقوله مع أنه يقرّ بأكثر مما جعل اجرة المثل، والإلتزام بذلك مشكل.
(6) مسالك الأفهام 14 : 104 ـ 105.
(7) كتاب الخلاف 6 : 337 المسألة 10.
(8) جواهر الكلام 40 : 459.
(9) جواهر الكلام 40 : 459.
(10) جواهر الكلام 40 : 459.
(11) المبسوط في فقه الإمامية 8 : 264.