حكم إنهاء الحكم بالشهادة:
قال المحقق قدّس سرّه «وأمّا الشهادة، فإن شهدت البينة بالحكم، وبإشهاده إياّهما على حكمه تعيّن القبول»(1).
قال في (الجواهر): لعلّه لعموم ما دلّ على وجوب قبول حكمه الذي هو من حكمهم عليهم السلام، ولذا كان الرادّ عليه رادّاً عليهم، وما دلّ على حجية البيّنة. ثم إن المحقق قدّس سرّه ذكر أن تكون الشهادة على الحكم وعلى الإشهاد معاً احتياطاً ، وذلك، لأن الحاضر في مجلس الحكم قد لا يلتفت إلى ما وقع مع خصوصياته، لكن عندما يشهد على الأمر يصغى إليه ويلتفت إلتفاتاً كاملاً، فتكون شهادته حينئذ أتم(2).
وقد ذكر المحقق لما ذهب إليه من تعيّن قبول الشهادة وجوهاً أربعة:
فالأول ما ذكره بقوله: «لأن ذلك مما تمس الحاجة إليه، إذ احتياج أرباب الحقوق إلى إثباتها في البلاد المتباعدة غالب، وتكليف شهود الأصل التنقل متعذر أو متعسر، فلابدّ من وسيلة إلى استيفائها مع تباعد الغرماء، ولا وسيلة إلا رفع الأحكام إلى الحكّام، وأتم ذلك احتياطاً ما حررناه.
لا يقال: يتوصّل إلى ذلك بالشهادة على شهود الأصل.
لأنّا نقول: قد لا يساعد شهود الفرع على التنقل والشهادة الثالثة لا تسمع».
أقول: وأيضاً الشهادة على الشهادة لا تسمع مع إمكان الشهادة على الأصل، ولذا قال بعضهم بأنه مع إمكان الشهادة على الأصل، يجوز الحكم طبق الشهادة على الشهادة، كما يجوز على نفس الشهادة على الأصل، بخلاف الشهادة على الحكم فإنها تسمع ولو مع إمكان الشهادة على الأصل.
وأيضاً: الشهادة على الشهادة لا تسمع في الحدود، بخلاف الشهادة على الحكم فإنها حجة فيها أيضاً.
ولا تقبل الشهادة على الشهادة إلا مرةً واحدة، وأما إنفاذ الحكم فيستمر باستمرار الزمان، ففيما لا تكون الشهادة على الشهادة حجة لا محيص لرفع الحوائج وفصل الخصومات إلا بإنفاذ الحكم.
وإذ لا يشترط في الشهادة على حكم الحاكم عدم إمكان الشهادة على الأصل، فإن للحاكم الثاني استماع الشهود في القضية من جديد، وله أن يحكم استناداً إلى الشهادة على حكم الأول، كما أن له إجراء الحدّ استناداً إلى الشهادة على الحكم، لعدم اختصاصها بغير الحدود.
هذا توضيح ما قرّره صاحب (الجواهر)(3) في شرح عبارة المحقق في جواب لا يقال.
وصاحب (المسالك) قررّه بنحو آخر وهو: أن في الشهادة على الشهادة قصوراً عن الشهادة على الحكم، لأنها لا تسمع إلا مرةً واحدة، بخلاف الشهادة على الحكم، فإنها تسمع في الثالثة. وتوضيح ذلك: إن الشهادة على الأصل هي المرتبة الاولى لإثبات المدعى، والمرتبة الثانية هي الشهادة على الشهادة بعد تعذر الشهادة على الأصل، وحجيتها، مخصوصة بتلك المرتبة، وأما الشهادة على الحكم التي هي في المرتبة الثانية عن شهادة الأصل، فلا تختص حجيّتها بتلك المرتبة، بل الشهادة على الشهادة على الحكم حجة أيضا، وهي المرتبة الثالثة. إنتهى.
لكن هذا في الحكم الأول المستند إلى الشهادة على الأصل، وصاحب (المسالك) لم يتعرض للشهادة على حكم الحاكم الثاني المستند إلى الشهادة على الشهادة، والمستند إلى الشهادة على الحكم المستمر باستمرار الزمان، فظهر أن كلا التقريرين صحيح.
فالجواهر نبّه على الفرق بين الشهادة على الحكم، والشهادة على الشهادة، والمسالك نبّه على قصور الشهادة على الشهادة عن الشهادة على الحكم بمرتبة، لكن الأول مشتمل على فوائد أكثر.
قال في (الجواهر): إن ما ذكره صاحب المسالك فرض نادر(4).
قلت: وليكن نادراً، فإن الشارع جعل طريقاً لفصل الخصومة فيه أيضاً من باب اللطف.
وظاهر هذا الوجه هو التعليل لثبوت الحكم، وإذ ثبت ووصل إلى الحاكم الثاني وجب القبول والإنفاذ، لأن ملاك الثبوت والقبول هو ما ذكره من التعليل المذكور.
والوجه الثاني ما ذكره بقوله: «ولأنه لو لم يشرع إنهاء الأحكام بطلت الحجج مع تطاول المدد».
أي: الحكم بالإنفاذ موقوف على أمرين: أحدهما: قبوله الحكم، والثاني: كون الحكم واصلاً إليه بطريق مشروع، ولو لم يكن الوصول بالبينة مشروعاً لبطلت الحجج.
قال في (المسالك): لأن الحاكم يموت فيبطل حكمه(5).
قلت: يعني إن الحكم لا يبطل بالموت، لأنه ليس كالوكالة مثلاً، بل المراد أن الحكم يبقى بلا أثر، إذ لا طريق إلى إثباته مع عدم اعتبار البيّنة.
قال: فإن الشهود تصير طبقة ثانية بعده، فإذا أنفذ حكمه بشهاداتهم طال زمان نفوذ الحجة والانتفاع، وهلم جراً بالنسبة إلى الحاكم الثاني والثالث، فيستمر الانتفاع بالحجة.
أقول: يحتمل أن يكون مراده أن الشهادة على الإنفاذ يستمر أثرها، ويحتمل أن يكون المراد هو الشهادة على الشهادة، فيكون في المرة الثالثة بلا أثر. والظاهر هو الأول.
هذا، ولا نصّ في مورد هذا الوجه، بل هو مقتضى عمومات أدلّة القضاء ونفوذ حكم الحاكم.
والوجه الثالث: ما ذكره بقوله: «ولأن المنع من ذلك يؤدى إلى استمرار الخصومة في الواقعة الواحدة، بأن يرافعه المحكوم عليه إلى آخر، فإن لم ينفذ الثاني ما حكم به الأول اتّصلت المنازعة»(6).
أقول: إن الغرض من جعل الحاكم هو الفصل بين الخصومات، فلو لم ينفذ حكم الحاكم الأول من قبل الثاني لزم تفويت الغرض، ولكن تماميّة هذا الوجه تتوقف على ثبوت حكم الأول بطريق مشروع.
والوجه الرابع ما ذكره بقوله: «ولأن الغريمين لو تصادقا أن حاكما حكم عليهما ألزمهما الحاكم ما حكم به الأول، فكذا لو قامت البيّنة، لأنها تثبت ما لو أقرّ الغريم به لزم»(7).
يعنى: إن إقرار المحكوم موجب لثبوت الحكم، وحينئذ يجب عليه ترتيب الأثر على الحكم، والبيّنة تثبت ما يثبته الإقرار.
أقول: إن الحاكم الثاني عندما يريد إنفاذ حكم الأول، لابدّ له من ثبوت الحكم عنده وثبوت وجوب الإنفاذ عليه.
وقد اشتملت هذه الوجوه الأربعة على دليل الأمرين معاً.
وقال صاحب (الجواهر)(8) قدّس سرّه: إن هذه الأدلّة الأربعة يظهر من بعضها أنها مساقة بثلاث للإكتفاء بالشهادة في إثبات حكم الحاكم، ومن آخر أنه مساق لإثبات مشروعية حكم الحاكم الآخر بإنفاذ ما حكم به الأوّل، إلا أن الأولى الإستناد في إثبات الأول إلى عموم دليل حجيّة البينة والقضاء بها، وفي الثاني إلى عموم حكم الحاكم، وأن الرادّ عليه رادّ علينا، وأن حكمه حكمهم، وما ندري أن النزاع في أي المقامين، لأن كلامهم مشوّش.
ويشكل عليه: بأن مقتضى الدليل عدم جواز الردّ، لا وجوب الإنفاذ.
وفيه: أن وجوب الإنفاذ هو مقتضى عمومات وجوب القضاء لفصل الخصومة.
(1) شرائع الإسلام 4 : 96.
(2) جواهر الكلام 40 : 306.
(3) جواهر الكلام 40 : 307.
(4) جواهر الكلام 40 : 307.
(5) مسالك الأفهام 14 : 10.
(6) مسالك الأفهام 14 : 9.
(7) مسالك الأفهام 14 : 9.
(8) جواهر الكلام 40 : 308.