تعريف المدّعي:
اختلفت كلمات الأصحاب في تعريف «المدعي» الذي استفاض ذكره في نصوص كتاب القضاء، فعرّفوه بتعاريف:
قال المحقق: «وهو الذى يترك لو ترك الخصومة» أي: هو الذي يخلّى سبيله ويسكت عنه لو سكت عن الخصومة. وهذا التعريف للمحقق وجماعة بل قيل إنه المشهور.
«وقيل هو الذي يدّعي خلاف الأصل أو أمراً خفيّاً»(1) أي: منافياً للظاهر الشرعي قال في (الجواهر) «وعن بعضهم حكاية التفسير بالمعطوف خاصة عن بعض، وبالمعطوف عليه خاصة عن آخر. وحينئذ تكون الأقوال أربعة»(2).
وقد نوقش الأول بعدم الإنعكاس أو عدم الإطّراد، فقد يترك المدّعي الدعوى أو المدّعى عليه وتبقى الخصومة، فلو أودع مالاً عند شخص فادّعى ردّه عليه فأنكر صاحب المال، لم يترك المدّعي لو ترك دعوى الرد بل يطالب بالرد.
وأجاب في (الجواهر) بأن مطالبة المدّعي باليمين والمنكر بالبينة لا يخرج المدّعى عن كونه مدّعياً، بل ذلك مقتضى الدليل الشرعي في بعض الموارد بنحو التخصيص.
وفي (العروة): إن هنا دعويين، احداهما: الإيداع عنده، والثانية: دعواه الردّ ، فلو ترك هذا دعوى الرد انتفت الخصومة الثانية، ولكن الاولى باقية(3).
والمراد من «الأصل» في التعريف الثاني هو القاعدة الكلّية، أعمّ من الأصل والأمارات كاليد والإستصحاب، فالأصل في اليد دلالتها على الملكيّة، فمن ادّعى على خلاف مقتضاها قيل له أنت تدّعي خلاف الأصل.
وقد يراد من «الظاهر» معنى غير «الأصل»، كما لو أرخى الزوجان الستر ثم اختلفا في الدخول، فادّعته الزوجة وادّعى الزوج العدم، كانت دعوى الزوج مخالفة للظاهر.
ولو أسلم الزوجان، فادّعت الزوجة التقارن فالنكاح باق، وأنكر الزوج فهو باطل، فإن مقتضى الأصل هو عدم الإسلام المقارن، وأصالة عدم المقارنة مثبتة.
هذا، ولكن الأولى ـ وفاقاً للجواهر ـ هو الرجوع إلى العرف في تشخيص المدّعي من المنكر، وفي مورد التداعي ـ حيث يصدق «المدّعي» على كليهما ـ يطالبان معاً بالبينة، وحيث يشك يعيّن المدعي من المنكر بالقرعة.
وفي العرف: المدّعي هو من يريد إثبات حق له على غيره فيطالب به عند الحاكم، أو يريد التخلّص من حق لغيره عليه، كأن يدّعي إرجاع الأمانة وتسليم الوديعة وأداء الدين.
فيكون الحاصل وجوب إقامة البينة على من كان عند العرف مدّعياً واليمين على من كان عندهم منكراً، لأن الخطابات الشرعية مثل «البينة على المدعي واليمين على المدّعى عليه» أو «على من أنكر» ونحوها، ملقاة إلى العرف العام، وليس للشارع جعل خاص لموضوعات الأحكام في هذه الموارد ـ وإن قيل بذلك في خصوص المدّعي ـ فتشخيص الموضوع بيد العرف، نعم، قد يخطأ العرف في تشخيص موضوع من موضوعات الأحكام، وحينئذ لا يوكل الشرع الأمر إلى العرف في ذاك المورد، بل يعيّن موضوع حكمه بنفسه، وهذا لا ينافي كون خطاباته ملقاة إلى العرف.
فالتحقيق في المقام ما ذكرناه، ومن عرّف المدّعي بنحو من الأنحاء المذكورة، فقد لحظ المعنى الأكثر انطباقاً في الموارد في نظره، وجعله عنواناً كلّياً، وإلا فلا دليل في الكتاب والسنة ولا قرينة على تعيين أحد تلك التعاريف.
وحيث عيّن العرف المدّعي ـ ولم يخطّئه الشارع ـ توجّه إليه الوظيفة الشرعية في إقامة الدعوى، سواء ترك المخاصمة لو ترك أولا، وسواء كانت دعواه مخالفة للأصل أو الظاهر أو موافقة.
ثم إنه قد يختلف الأمر باختلاف مصبّ الدعوى.
ففي الإجارة مثلاً قد يدّعي المستأجر وقوع الإجارة بمائة، ويدّعي الموجر وقوعها بمأتين، فهنا كلّ منهما يدّعي شيئاً وينكر ما يدّعيه الآخر، فيقع التداعي وعليهما البينة، وقد يكون مصبّ الدّعوى المأة المختلف فيها، وحينئذ يكون القائل بالمأتين ـ وهو الموجر ـ مدّعياً وعليه إقامة البينة، والمستأجر منكراً وعليه اليمين، فإن أقام الموجر البيّنة ثبتت المأة على المستأجر وإلا حلف وسقطت دعوى الموجر.
وفي الدين: إن طالب الدائن بالمال وأنكر المدين، كان الأول هو المدّعي، وإن قال المدين: قد أديت الدين، انقلب مدّعياً وكان عليه إقامة البيّنة على الأداء.
وفي البيع، كأن يقول بعت بعشرين، ويقول المشترى: بل بعشرة، أو يقول: بعتك بعشرين ديناراً من ذهب، فيقول المشتري: بل من فضّة، أو يقول: بعتك هذا الشيء، فيقول: بل وهبتني إيّاه، وتظهر الثمرة في الفرض الأخير عند تلف العين مع الفساد، فإن كان الواقع بيعاً فاسداً ضمن الآخذ، وإن كان هبة فاسدة لم يضمن.
ولو كان مورد المخاصمة هو الضمان، فهذا يدّعي اشتغال ذمة الآخر وذاك ينكر، وحينئذ يكون الملاحظ نتيجة النزاع، ولا ينظر إلى الإختلاف في عنوان المعاملة وأنها كانت هبة أو بيعاً، أمّا إذا كان مورد النزاع هذه الناحية، فإنه يقع التعارض بين الدعويين، لجريان أصالة العدم في كلا الطرفين.
ومع الجهل بمصبّ الدعوى ومورد المخاصمة يعيّن بالقرعة.
وكيف كان، فإن الملاحظ هو نظر العرف في تعيين المدّعي والمنكر، ويؤخذ بنظر الإعتبار مصبّ الدعوى، إذ الأمر يختلف باختلافه كما مثّلنا.
(1) شرائع الإسلام 4 : 106.
(2) جواهر الكلام 40 : 371.
(3) العروة الوثقى 3 : 35.