الكلام في أُجرة القاسم:
قال المحقق قدّس سرّه: « وأجرة القسام من بيت المال، فإن لم يكن إمام أو كان ولا سعة في بيت المال كانت أُجرته على المتقاسمين»(1).
أقول: هذا بالنسبة إلى القاسم المنصوب من قبل الإمام عليه السلام، فإن أُجرته تكون على بيت المال، لأنه معدّ للمصالح وهذا منها، لكن ذلك يختص بصورة إجبار الإمام المتقاسمين على التقسيم، وأما وجوبها على بيت المال في المورد الذي لم يأمر فيه الإمام بالقسمة فبعيد، فكان الأولى التقييد بما ذكرناه، وحيث طلبا من الإمام عليه السلام إرسال القاسم لأجل التقسيم كانت الاجرة عليهما، لأن عمله محترم وهما قد طلباه، فعليهما الاجرة لا على بيت المال وإن كان فيه سعة.
وأما إذا طلب أحدهما دون الآخر، فأمر الإمام بالتقسيم، فهل عليه دفع ما يجب على الراضي منهما أيضاً من بيت المال؟ الظاهر هو العدم.
والمشهور ف بل ادعي الإجماع ف على أخذ الاجرة من كليهما، وإن كان أحدهما ممتنعاً وكان التقسيم بأمر الحاكم و إجباره، وكذا لو لم يمتنع أحدهما بل رضي بكلا الأمرين ـ بقاء الشركة والتقسيم ـ على السواء، فأمر الحاكم بالتقسيم، قالوا: لأن التقسيم له أثر ونفع بالنسبة إليه أيضاً.
وفيه: إن توجّه النفع الذي لم يطلبه لا يوجب دفع شيء عليه، وتحقق الإجماع في هذا الغرض بعيد.
وكذا لو رضي بالتقسيم من غير أن يطلبه، أو رضي الحاكم به من قبله، فإنه لا يجب عليه شيء إلا عدم الإمتناع عن التقسيم، وكذلك الحاكم إن رضي من قبله بالولاية….
فالأقوى في جميع هذه الموارد توجّه كلّ الاجرة على من طلب التقسيم.
هذا، ومقتضى القواعد كفاية رفع اليد عن المال وعدم وجوب تسليمه.
قال المحقق قدّس سرّه: «فإن استأجره كلّ واحد بأُجرة معينة فلا بحث»(2).
أقول: إن استأجر كلا الشريكين القاسم بعقد واحد لأجل التقسيم بأُجرة معيّنة، وجب عليهما معاً دفع الاجرة، وإن استأجره كلّ واحد بالاستقلال وبأُجرة معنية قال المحقق: فلا بحث، وهو صريح في الجواز.
وقد أشكل عليه من جهة أن العمل واحد وينتفع منه كلاهما، فإذا استأجره أحدهما لهذا العمل لم يصح استيجار الثاني إيّاه له، لأن هذا العمل مملوك للأول، فكيف يأخذ مالاً بأزاء هذا العمل من الشريك الثاني؟ وبعبارة أخرى: إنه يتحصّل من إفراز سهم الموجر كون سهم الآخر مفروزاً كذلك، فيكف يجعل نفسه أجيراً لتحصيل ما حصل؟
فإن قيل: فكيف يجوز أن يصير الشخص الواحد وكيلاً من طرف البائع للإيجاب، ومن طرف المشتري للقبول، في معاملة واحدة؟
قلنا: إنه قياس مع الفارق، كما هو واضح.
وقد أشكل عليه أيضاً: بأن فرز مال أحدهما مقدمة لفرز مال الآخر، فإذا أُوجر من قبل أحدهما كانت إجارة الثاني باطلة، لأنها تكون على عمل وجب عليه القيام به بإجارة الأول من باب المقدمة.
لكن فيه: إن العمل واحد، غير أن الذي يتحصل منه أمران، وليس باثنين حتى يكون أحدهما مقدمة للآخر.
وقد ذكر في (المسالك) الإشكال الأول وقال: «وأجيب بأن السؤال مبني على أنه يجوز استقلال بعض الشركاء باستيجار القسام لإفراز نصيبه ولا سبيل إليه، لأن إفراز نصيبه لا يمكن إلا بالتصرّف في نصيب الآخرين تردّداً وتقديراً، ولا سبيل إليه إلا برضاهم، نعم، يجوز أن ينفرد واحد منهم برضا الباقين، فيكون أصلاً ووكيلاً ولا حاجة إلى عقد الباقين، وحينئذ، إن فعل ما على كلّ واحد منهم بالتراضي فذاك، وإن أطلق عاد الكلام في كيفية التوزيع»(3).
وقد أشكل على هذا الجواب: بأن الإجارة للتقسيم المستلزم للتصرف في مال الشريك بدون إذنه، غير صحيحة، وأما إذا كانت الإجارة في مورد لا يستلزم التقسيم فيه التصرف، كأن يكون القاسم عالماً بوزن المال أو مساحة الأرض مثلاً عاد الإشكال.
أقول: هذا كلّه بالنسبة إلى التصرف الخارجي، لكن الإفراز في حدّ ذاته تصرف، فلا يجوز القيام به، ولا يتحقق إلا مع إذن الشريك، وحينئذ، تكون إجارة الأوّل باطلة.
وكما يمكن أن يكون القاسم عالماً بخصوصيات المال بحيث لا يحتاج إلى التصرف في نصيب الشريك الآخر، كذلك يمكن تحصيل رضا الشريك بهذاالمقدار من التصرف اللازم لمعرفة خصوصيات المال، فيكون نظير ما إذا وكّله في شراء دار مثلاً، فإن معناه أنه إن رضي مالكها وباعها فاشترها منه، وإما إذا لم يرض لغت الوكالة، فيكون كبيع الفضولي مع عدم إجازة المالك، فلو باع شخص مال غيره فضولة، أي أنشأ تمليكه الغير بدون رضى المالك، فإن هذا فعل لغو وليس حراماً، لأن المفروض عدم وقوع التصرّف فيه.
وهنا، إن كان التقسيم في الحقيقة إجارة مشروطة بإجازة الشريك، فقيل بعدم الصحّة أيضاً، وقال في (الجواهر): إذا كان إنشاء الإجارة مشروطاً بإجازة الآخر، فإن إجارة الأول باطلة للتعليق، وإن كان إنشاءً مراعىً بإجازة الآخر ـ مثل بيع الفضولي ـ فإنّه إنشاء منجّز لكنه مراعىً شرعاً، فإن رضي الثاني بالإجارة تمّت وأثّرت الإجازة، فهذا معنى قول صاحب الجواهر: اللهم إلا أن يراد أن الأولى وقعت مراعى صحتها بوقوع الثانية(4)، ولكن فيه: إن المراعى في بيع الفضولي أن المالك يجيز نفس عمل الفضول، وهنا إن أجاز الثاني نفس عمل الأول كان عمله ممضىً بهذه الإجارة ولا يكون شريكاً معه في الإجارة، وإن كانت إجازة الثاني بمعنى إنشائه الإجارة، عاد الإشكال، ولذا قال هو: والتحقيق عدم صحة الثانية حيث تصح الاولى من دون مراعاة للثانية مع كون المستأجر عليه شيئاً واحداً.
هذا، ولو وكّل أحد الشريكين الآخر في التقسيم، فاستأجر الشريك أصالة عن نفسه ووكالة عن شريكه من يقسّم المال، وجب عليهما معاً دفع الاجرة.
قال المحقق قدّس سرّه: «وإن استأجروه في عقد واحد ولم يعيّنوا نصيب كلّ واحد من الاجرة لزمتهم الاجرة بالحصص، وكذا لو لم يقدّروا أجرة كان له أجرة المثل عليهم بالحصص لا بالسويّة»(5).
أقول: إدعى في (الجواهر) إجماع الطائفة على مراعاة الاجرة بالحصص(6).
واستدل له الشيخ قدّس سرّه بأنا لو راعيناها على قدر الرؤوس ربما أفضى إلى ذهاب المال، كأن يكون بينهما لأحدهما عشر العشر سهم من مأة سهم والباقي للآخر، ويحتاج إلى اجرة عشرة دنانير على قسمتها، فيلزم من له الأقل نصف العشرة، وربما لا يساوى سهمه ديناراً واحداً، فيذهب جميع المال، وهذا ضرر، والقسمة وضعت لإزالة الضرر فلا يزال بضرر أعظم منه(7).
واستدل له (كاشف اللثام) بقوله: ولأن الاجرة تزيد بزيادة العمل، والعمل يزيد بزيادة المعمول، فكلّ من كانت حصته أزيد فالعمل له أزيد، كمن يسقى جريبين من الأرض فعمله أزيد ممّن يسقى جريباً، وأن تحمل المشقة أكثر، وكمن ردّ عبداً قيمته مائة، فعمله أزيد ممن ردّ عبداً قيمته خمسون، والغموض في قلة النصيب إنما جاء من كثرة نصيب الآخر(8).
وفي (القواعد) وغيرها احتمال التساوي، للتساوي في العمل(9)، فإنه ليس إلا إفرازاً أو حساباً أو مساحة، والكلً مشترك بينهما، بل قد يكون الحساب في الأقل أغمض، وقلة النصيب توجب كثرة العمل لوقوع القسمة بحسب أقل الأنصباء، فإن لم يجب على الأقل نصيباً من الاجرة أزيد فلا أقل من التساوي.
قال في (الجواهر): ولكن لم يذهب إليه أحد من أصحابنا، بل عن الشافعي وأبي حنفية ومالك موافقتنا على ذلك، نعم، هو محكي عن أحمدبن حنبل، ونقض عليه الفاضل في القواعد بالحفظ للمال المشترك، فإن له الاجرة بالحصص مع التساوي في العمل(10)…
قلت: ومثله حمل المال المشترك من مكان إلى آخر، فإن له الاجرة بالحصص.
لكن التحقيق اختلاف الموارد، وأنه لا تدور الاجرة مدار نتيجة العمل في كلّ مورد، مثلاً: لا يفرّق في الاجرة بين حمل الحنطة وحمل الرز من مكان إلى آخر ـ مع وحدة المسافة واتحادهما في الوزن ـ وإن كان الرز أغلى من الحنطة، وصاحب المطبعة يطبع كلّ ملزمة من الكتاب باُجرة معينة، فهو يأخذ اُجرته في مقابل عمله، من غير فرق بين أن يكون الكتاب من الكتب العلمية النفيسة ماديّاً ومعنوياً، أو يكون كتاباً وضيعاً كذلك، ففي هذه الموارد يلحظ العمل نفسه، وأما في حمل المال المشترك أو تقسيمه، فالسيرة العقلائية على النظر إلى نتيجة العمل بالنسبة إلى كلّ واحد من الشركاء، فإذا آجروه كلّهم للحمل أو القسمة قسّمت الأجرة عليهم بالحصص، لأن حرمان صاحب التسعة أعشار من الإستفادة من المال ـ لأجل الشركة ـ تسعة أضعاف حرمان صاحب العشر، فتكون استفادته من المال بالتقسيم تسعة أعشار استفادته، فعليه تسعة أعشار الاجرة.
فالحق هو الاستدلال بالإجماع وبقاعدة نفي الضرر، كما عن الشيخ قدّس سرّه في (الخلاف)(11).
(1) شرائع الإسلام 4 : 101.
(2) شرائع الإسلام 4 : 101.
(3) مسالك الأفهام 14 : 31.
(4) جواهر الكلام 40 : 335.
(5) شرائع الإسلام 4 : 101.
(6) جواهر الكلام 40 : 335.
(7) كتاب الخلاف 6 : 229 ، المسألة 26.
(8) كشف اللثام 10 : 168.
(9) قواعد الأحكام 3 : 461 ، ايضاح الفوائد 4 : 370.
(10) جواهر الكلام 40 : 336.
(11) كتاب الخلاف 6 : 229